الاثنين، 10 يناير 2011

الخط الهمايونى

يشبه مناخ المزايدة، قدرا يغلي، ترسب حقائقه (الراسخة) لتغيب في القاع، ويطفو خبث أكاذيبه علي السطح، ليكون أول ـ وربما كل ـ ما يري من المشهد. لكن الخبث يبقي خبثا، والحقيقة أطول عمرا كما يقول «شوبنهور»، و«الخط الهمايوني»، تلك الفزاعة التي يرفعها الطائفيون مع كل حديث مفتري عما يسمونه «اضطهاد الأقباط»، يظل ـ برغم الأكاذيب ـ إصلاحا قانونيا كان ـ وقت صدوره ـ مطلبا تمسك به بطريرك الأقباط الأرثوذكس، لإنقاذ كنيسته من «طوفان» الإرساليات الإنجيلية، والكاثوليكية أيضا. ثم إنه هو نفسه «الخط الهمايوني» الذي استندت إليه الكنيسة الأرثوذكسية في دعواها ضد كنيسة الأنبا «مكسيموس»، ما يجعلنا نسأل: أهو قانون عثماني بال تطالب الكنيسة بالخلاص منه، كما يزعم منتسبوها، أم هو قانون تعترف به وتستند إليه؟

تسمية «الخط الهمايوني» تعني «القانون الشريف»، وهو قانون عثماني صدر في عهد السلطان عبد المجيد خان بن محمود خان الذي امتد حكمه من 1839 إلي 1861م. وكان حاكم مصر وقت صدورالقانون هو الوالي «محمد سعيد باشا»، رابع أبناء «محمد علي باشا»، ورابع ولاة مصر من الأسرة العلوية، حكمها من 1854 إلي 1863م. وبالتحديد صدر «الخط الهمايوني» في أوائل جمادي الآخرة 1272 هـ ـ 18 من فبراير 1856 م، أي بعد سنتين من بدء نشاط الإرساليات الإنجيلية الأمريكية في مصر، وهو نشاط عبرت الكنيسة الأرثوذكسية ـ صراحة ـ عن قلقها بشأنه، ورفضها له. أما الإرساليات الإنجيلية فقد استفادت من تجربة وخبرة الإرساليات «الكاثوليكية» التي سبقتها ومهدت لها الطريق، وراحت تعمل ـ خاصة في الصعيد والمناطق الفقيرة ـ مدفوعة بالثقل السياسي لبريطانيا العظمي، التي سبقت إرسالياتها الإنجيلية الإرساليات الأمريكية، ومدفوعة أيضا بالأموال الطائلة التي تتدفق عليها عبر المحيط من الولايات المتحدة؛ ما سهل مهمتها نحو اكتساب الأتباع، وإغراء بعض الأرثوذكس لمشاركتهم كنائسهم، التي أصبحت كنائس «أرثو ـ إنجيلية».

وكان بطريرك الأقباط الأرثوذكس آنذاك هو «كيرلس الرابع»، الذي كان اسمه قبل رسامته «القس داود الصوامعي» والملقب في تاريخ الكنيسة بـ«أبو الإصلاح»، وهو البطريرك رقم 110، خلف البطريرك «بطرس السابع»، وجلس علي الكرسي المرقسي من 1854 إلي 1861م. ولنعرف مدي هيمنة الإرساليات الإنجيلية علي المشهد المسيحي في مصر آنذاك، يكفي أن نشير إلي ما سجلته وثائق الكنيسة الأرثوذكسية من انقسام الأقباط إلي ثلاثة أحزاب بشأن انتخاب البطريرك، واستعانة «القس داود الصوامعي» بالمستر «ليدر» عضو إحدي الإرساليات الإنجليزية، طالبا منه التوسط لدي قنصل إنجلترا في مصر لإقناع الوالي «عباس الأول» بإقراره بطريركا، وهو ما تم في نهاية المطاف علي الرغم من عائقين كبيرين، يشهد تجاوزهما بقدرات المستر «ليدر» ومدي نفوذ القنصل الإنجليزي الداعم للكنائس الإنجيلية:

> العائق الأول: أن العرافين ـ وكان «عباس الأول» يهتم بتدجيلهم ـ أشاعوا أن رسامة «داود الصوامعي» بطريركا سيكون شؤماً علي الوالي، والمدهش أن «عباس» اغتيل في قصره بمدينة بنها في 14 من يوليو 1854م، أي بعد رسامة البطريرك بأربعين يوما!

> والعائق الآخر: أن خصوم ومنافسي «كيرلس الرابع» كانوا أقوياء لدرجة أنه ـ وقبل أن يقره الوالي في منصبه ـ قضي شهورا طويلة محاصرا حيث: «قام خصومه وحالوا بينه وبين إنجاز مصالح الطائفة، واشتدوا عليه شدة بالغة، حتي كان إذا أراد النوم لا يجد لرأسه وسادة ينام عليها، ولا لجبينه فراشا، وإذا جاع لا يقدمون طعاما إلا ما يسمحون به له، وإذا زاره أحد لا يسمحون له بلقائه». ولا شك في أن خصوما يمكنهم حصار البطريرك علي هذا النحو، كان بمقدورهم أن يحولوا دون رسامته من البداية، والحقيقة أنهم لم يدخروا وسعا في هذا الصدد، لدرجة وصلت إلي تبادل السباب، والعراك، وكسر باب الكنيسة، بل إن بعض الأحباش تعقبوا البطريرك ليقتلوه، ما اضطره إلي الاختفاء، لكن نفوذ عضو الإرسالية الإنجيلية كان له الأثر الحاسم برغم هذا كله، فأي نفوذ هذا؟

إنه النفوذ نفسه الذي وجده «كيرلس الرابع» بعد رسامته بطريركا يقف عقبة في طريق مساعيه نحو تحسين أحوال كنيسته، لهذا رفع صوته بالشكوي منه، وعندما صدر «الخط الهمايوني» خاض بطريرك الأقباط ـ بنفسه ـ معركة لتطبيقه في مصر، التي كانت تتمتع باستقلال نسبي عن السلطنة العثمانية. ويكفي أن نقرأ مقدمة هذا القانون لنعرف أن البطريرك كان معه الحق كله في المطالبة بتطبيقه، وهي المقدمة التي يقول فيها السلطان العثماني: «قد أصدرنا إرادتنا الملوكية هذه بإجراء الأمور الآتية: وهي اتخاذ التدابير المؤثرة نحو: تأمين كافة التبعة الملوكية من أي دين ومذهب كانوا ـ بدون استثناء ـ علي الروح والمال وحفظ الناموس.... وتقرير إبقاء كافة الامتيازات والمعافيات الروحانية التي منحت، وأحسن بها في السنين الأخيرة، والتي منحت من قبل أجدادنا العظام للطوائف المسيحية وكافة الملل غير المسلمة».

كما تضمن «الخط الهمايوني» نصا واضحا يتيح للأقباط، في المناطق التي لا توجد فيها طوائف مسيحية أخري، أن يقيموا ما يحتاجون إليه من منشآت، أما في المناطق التي تتواجد فيها طوائف متعددة، فقد اشترط القانون موافقة السلطان. وإذا عرفنا أن الأقباط هم الطائفة المسيحية الوحيدة التي توجد في مصر منفردة في بعض المناطق، والتي توجد أيضا حيثما وجدت غيرها من الطوائف المسيحية، نفهم أن هذا النص منح الأقباط حرية البناء، وفي الوقت نفسه حد ـ لصالح الأقباط ـ من نشاط بناء كنائس الطوائف الأخري. حيث نص «الخط الهمايوني» علي أن «البلاد والقري والمدن التي يكون جميع أهاليها من مذهب واحد، لا يحصل إحداث موانع في بناء سائر المحلات التي تكون مثل مكاتب واسبتاليات (مستشفيات) ومدافن مختصة بإجراء عاداتهم حسب هيئتها الأصلية، وعند لزوم إنشاء هذه المحلات مجددا بحسب استصواب البطاركة ورؤساء الملة، يلزم رسمها، وبيان صفة إنشائها، وتقديم ذلك إلي بابنا العالي، وإما أن يجري المقتضي فيها بموجب إرادتنا السنية الملوكية المتعلقة بقبول الصور السابق عرضها، وإما أن يصير بيان المعارضات المختصة بذلك في ظرف مدة معينة، وإذا وجدت طائفة من مذهب منفردة بمحل وليس مختلطة مع مذاهب أخري، فلا تصادف صعوبات في إجراء الخصائص المتعلقة بنفاد عوائدها في هذا المحل علنا، وإذا كانت قرية أو بلدة أو مدينة مركبة أهاليها من أديان مختلفة، يمكن لكل طائفة منهم ترميم وتعمير كنائسها، واسبتالياتها، ومقابرها بحسب الأصول الموضحة بالمحلات المخصصة لهم الموجودة محلات سكنهم به، وأما الأبنية المقتضي إنشاؤها مجددا، يلزم أن تعرض البطاركة والمطارنة لبابنا العالي باسترحام الرخصة اللازمة عنها، فإن لم يوجد لدي دولتنا العلية موانع في الامتلاك تصدر بها رخصتنا السنية، وكافة المعاملات التي تحصل فيما يماثل كل هذه الأشغال تكون مجانا من قبل دولتنا العلية في التأمين علي إجراء عوائد كل مذهب بكمال الحرية مهما كان مقدار العدد التابع لهذا المذهب. وتمحي وتزال إلي الأبد من المحررات الرسمية الديوانية كافة التعبيرات والألفاظ المتضمنة تحقير جنس لجنس آخر، في اللسان، أو الجنسية، أو المذهب من أفراد تبعة سلطتنا السنية.... وبما أن عوائد كل دين ومذهب موجود بممالكنا المحروسة جارية بالحرية، فلا يمنع أي شخص من تبعتنا الملوكية من إجراء رسوم الدين المتمسك به، ولا يؤذي بالنسبة لتمسكه به، ولا يجبر علي تبديل دينه ومذهبه».

هذا هو القانون العثماني الذي طالب «كيرلس الرابع» بتطبيقه، وعندما تأخرت استجابة والي مصر «محمد سعيد باشا» له، أعرب البطريرك عن استيائه، وذهب إلي دير «الأنبا أنطونيوس»، مع صديقه بطريرك الروم الأرثوذكس «الأنبا كلينيكوس»، حيث أقاما نحو 6 أشهر، وحين حاول قنصل فرنسا «الصيد في الماء العكر» وعرض علي البطريرك أن يتوسط بينه وبين الوالي، مقابل السماح للرهبان اليسوعيين (كاثوليك) ببناء كنائس لهم في الحبشة رفض «كيرلس الرابع» العرض، الذي لم يكن إلا محاولة من قنصل فرنسا للالتفاف علي ما أتاحه «الخط الهمايوني» للأقباط من حماية.



محمد القدوسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق