الأحد، 30 مايو 2010

بمناسبة ذكرى نكبة فلسطين:الدولة الزنكية الأيوبية والدولة العربية الحديثة:مقارنة ونتائج د.غازي التوبة

استمرت الحروب الصليبية ما يقرب من مائتي سنة، حتى تمكّن المسلمون أن يطردوا الصليبيّين بشكل كامل، لكننا نقف مشدوهين أمام معلم أساسي هو سرعة صعود الأمة الإسلامية في سلم الانتصار وفرض التراجع على القوى الصليبية، إذ حدث ذلك بعد أربعين سنة تقريبا، حينما احتل عماد الدين الزنكي قلعة الرها التي كان احتلالها إيذانا بانتهاء الهبوط وبداية الصعود للأمة الإسلامية وعلى العكس ببداية الهبوط وانتهاء الصعود بالنسبة للقوى الصليبية.

ما السبب في ذلك؟ السبب هو الصفات التي اتصفت بها الدول التي جاءت استجابة للاحتلال الصليبي.

الدولة المواجهة للصليبيين :

تشكلت عدة دول بعد الاحتلال الصليبي للقدس عام 1099م، منها: الدولة الزنكية، والدولة الأيوبية، ثم دول المماليك، لكنها كانت تتصف جميعها بصفات مشتركة أهلتها للانتصار، وأبزر هذه الصفات هي:

1- النزعة التوحيدية :

لقد كانت هذه النزعة التوحيدية موجودة عند بعض القادة قبل أن يستطيعوا أن يشكلوا دولاً ومن هؤلاء قطب الدين مودود أتابك الموصل، سلف عماد الدين الزنكي، فقد اجتمعت جيوشه مع جيوش طغكتين أتابك دمشق مع جيوش أمير سنجار، والأمير إيازين إيلغازي سنة 507ﻫ/1113م، بالقرب من طبرية، وتم تدمير الجيش الصليبي تماما، ومما خفّف من قيمة الانتصار العسكري، اغتيال مودود أتابك الموصل في ربيع الثاني/أكتوبر 1113م، على يد أحد الباطنية، ثم موت رضوان أمير حلب مما خفف وطأه الهجوم على جبهة الشمال(1).

ثم برز عماد الدين الزنكي عام 521ﻫ/1127م، حاكما للموصل، ثم حكم حلب 522ﻫ، ثم استولى في العام التالي على حماه، ثم استولى على حمص 532ﻫ/1143م(2)، ثم انتزع "الرها" من أيدي الصليبين عام 1144م، بعد حصار دام ثمانية وعشرين يوما(3)، وكان سقوطها صدمة نفسية مؤلمة للصليبين(4) في كل مكان لأنها كانت أول أمارة صليبية تقوم على الأرض الإسلامية، ولأنها كانت مرتبطة بتاريخ المسيحية المبكر، وكان سقوط الرها من الناحية العسكرية كسبا كبيرا لأنه جعل وادي الفرات منطقه تخضع للسيطرة الإسلامية، وكان هذا الانتصار بداية النهاية للصليبين.

خلف نور الدين الشهيد والده عماد الدين الزنكي إثر اغتيال الأخير على يد الباطنية عام 1146م، وسار على نهج والده في توحيد البلاد الإسلامية وكانت دمشق هي البلد الوحيد الخارج عن نطاق التوحيد شمال الخلافة الإسلامية، وكان حاكمها معين الدين أنر يمثل عقبة في وجه جهود نور الدين محمود، وفي كل مرة كان يظهر فيها نور الدين محمود أمام أسوار مدينة دمشق كان الصليبيون يهبون لنجدتها، ثم عقد تحالفاً ضعيفا معها بعد موت حاكمها، إلا أنه استطاع أن يدخلها في النهاية برغبة أهلها الذين سئموا ظلم حاكمهم(5).

وهكذا استطاع نور الدين محمود أن يوحّد الجبهة الشرقية، ثم اتجهت أنظاره إلى مصر، وكانت تحكمها الخلافة الفاطمية، وتسابق في الوصول إليها مع الصليبين، واستغل المنازعات الداخلية، فأرسل أسد الدين شيركوه وبرفقته شاب في السابعة والعشرين من عمره هو ابن أخيه صلاح الدين يوسف الأيوبي، الذي خلف أسد الدين شيركوه في الوزارة بعد وفاته 564ﻫ/1169م، ثم استطاع صلاح الدين أن يلغي الخلافة الفاطمية ويلحق مصر بالخلافة العباسية، وذلك عام 567ﻫ/1171م(6).

وهكذا توحدت كل من بلاد الشام والعراق والجزيرة ومصر تحت راية واحدة، ثم حدثت معركة حطين في 4 يوليو 1187م(7)، التي كانت مقدمه لأخذ القدس من الصليبين في 2 اكتوبر 1187م، وسارعت بعد ذلك المدن والقلاع الصليبية إلى الاستسلام لصلاح الدين فلم يبق في أيدي الصليبين إلا بعض مدن محدوده هي صور، أنطاكية، طرابلس، وهكذا تأكدت نهاية الحروب الصليبية، كثمرة لعملية التوحيد التي قامت بها الدولتان : الزنكية والأيوبية.

2- الاستقلال السياسي والإقتصادي:

لقد جاءت الدولة الزنكية استجابة لحاجة الأمة في مواجهة الهجوم الصليبي الكاسح، وقد بدأ الالتفاف حولها، وكانت قيادة هذه الدولة الزنكية مستقلة في قرارها، وكان أفقها الأمة ومصالحها، وكان المرجع الوحيد الذي ترجع إليه هو الخلافة العباسية على ضعفها، وكذلك كان صلاح الدين الأيوبي، يعلم الخلافة ببعض تصرفاته حينا، ويستشيرها حينا آخر، وفي إحدى المرات عام570ﻫ، كتب إلى الخليفة العباسي في بغداد يعدّد فتوحاته وجهاده ضد الفرنج، وإعادته الخطبة للخلافة العباسية، وطلب من الخليفة تقليده مصر واليمن والمغرب والشام وكل ما يفتحه بسيفه فوافته بحماة رسل الخليفة المستضيء بأمر الله بالتشريف والأعلام السود وتوقيع بسلطنة مصر والشام وغيرها(8).

أما في المجال الإقتصادي فقد ذكرت كتب التاريخ أن الدولتين الزنكية والأيوبية كانتا دولتي حرب، وقد صيغ الإقتصاد ليكون في خدمة الدولة الحربية، فبعد أن كان الإقطاع الإداري هو السائد في الدولة السلجوقية سلف الدولة الزنكية، أصبح الإقطاع العسكري هو النمط الاقتصادي المتبع لدى الدولتين الزنكية والأيوبية، وهو الأنسب لتجييش الجيوش، لمرحلة مواجهة الصليبين، فقد اعتمد عماد الدين الزنكي على قوته العسكرية الخاصة، وربط الإقطاع بالخدمة العسكرية وولائه الشخصي وبذلك نجح في تحقيق انتصاره على الصليبين في الرها عام 1144م، وأصبحت الإقطاعات وراثية في عهد نور الدين محمود، وكانت هناك سجلات تبين عدد الرجال والعتاد الذين كان على كل أمير صاحب إقطاع أن يقدمهم لجيش نور الدين محمود(9)، واستمر صلاح الدين الأيوبي على نهج نور الدين محمود وأبقى الإقطاعات الوراثية وقد ارتكز الإقطاع على الأرض الزراعية.

وكان يمنح صلاح الدين رواتب نقدية وعينيّة لصغار الجنود والفرسان الذين لا يأخذون إقطاعات زراعية(10)، وكان من حق السلطان عزل أي أمير عن إقطاعه العسكري في حال التقصير في أداء الواجبات العسكرية في الجهاد ضد الصليبين، لذلك يتعين أن نعتبر هذه الصورة من التنظيم الإقطاعي تقوية للسلطة المركزية، وإحكاماً لسيطرة السلطان على الأمراء التابعين له تحت وطأه العزل والحرمان من الإقطاع(11).

3- ترسيخ القيم الدينية :

ليس من شك بأنّ زيادة العلم بالدين يساهم في قوة الأمّة، ويساعدها في مواجهة الأحداث، لذلك قام قادة الدولتين الزنكية والأيّوبية بإنشاء المدارس الدينية التي تدرّس مختلف العلوم الدينية في بيت المقدس، والشام، والقاهرة، والاسكندرية، وقام العلماء والفقهاء الذين تخرّجوا من هذه المدارس بشحن روح الحماسة في نفوس المسلمين للدفاع عن بلادهم ودينهم ضد الصليبين، وقرّبت القيادات السياسية القيادات الدينية إليها، وضمّتها إلى حاشيتها، وصرفت لها الأموال، وقد برز إلى جانب صلاح الدين الأيوبي بعض العلماء كالقاضي الفاضل، وعماد الأصفهاني، والقاضي بهاء الدين بن شداد إلخ... وقد اتصف صلاح الدين الأيّوبي بشكل خاص بأنه كان محبّاً لعلوم الدين حريصاً على سماعها، لذلك كان يحضر دروس العلماء ويستمع إليهم في حلقاتهم العلمية.

الدولة العربية الحديثة :

لقد تشكلت الدولة العربية الحديثة إثر إنفصال العرب عن الخلافة العثمانية لكنها كانت تحت الإنتداب بعد الحرب العالمية الأولى ثم استقلت بعد الحرب العالمية الثانية فما هي أبرز صفاتها :

1- غياب النزعة التوحيدية وبروز النزعة القطرية :

كثر الحديث عن الوحدة والتوحد بعد استقلال الدول العربية عن دول الانتداب الأجنبي غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م ، وبعد قيام اسرائيل وبروز التهديد المؤكد للأمة ،لكننا نجد نتائج محدودة ، وأقصى صيغة توحيدية قامت هي الجامعة العربية ، وانبثقت عنها مؤتمرات القمة العربية ، وقد قامت بعض الأعمال الوحدوية مثل الوحدة المصرية السورية في عام1958م لكنها انتهت في أيلول/ سبتمبر1961م بانفصال سورية عن مصر ، لكن الملاحظ هو ترسخ القطرية والإقليمية مع مرور الزمن ، والملاحظ أيضا ضعف فاعلية الصيغ السابقة من التوحيد كالجامعة العربية ومؤتمرات القمة .

وأبرز ما تتضح القطرية التي لا يراعي فيها جانب الأمة عند الإقدام على الخطوات السلمية مع العدو ، فقد برّر السادات إقدامه على توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979م ، بتضحيات مصر السابقة ومصلحتها الاقتصادية للمستقبل في مهادنة اسرائيل ، وعزف ياسر عرفات على نفس النغم عندما وقع اتفاقيات أوسلو بأن الشعب الفلسطيني قد ضحّى كثيرا ، وبأنه تحمل أكثر مما يجب ، وكذلك تحدث الأردن بنفس المنطق عندما وقع اتفاقيات وادي عربه .

الخلاصة : إننا نجد أن الدولة العربية الحديثة التي قامت بعد الإستقلال تعززت حدودها وترسخت ، وزادت الحواجز بين الدول العربية على عكس الدولة التي قامت بعد الإحتلال الصليبي فقد رأينا نجاح خطواتها التوحيدية مما يوضح عاملا من عوامل النجاح في مواجهة الهجمة الصليبية . وعدم توفره في مواجهة الهجمة اليهودية .

2- غياب الاستقلال السياسي والإقتصادي :

لقد بدأت الدولة العربية الحديثة وجودها بعد الحرب العالمية الأولى تحت الانتداب الأجنبي ، وهذا يعني أنها لم تكن تملك أي استقلالية في مواقفها السياسية ، وقد استقلت بعض الدول العربية قبل الحرب العالمية الثانية كالعراق ومصر ، لكنها لم تكن مستقلة في حقيقة الأمر فقد كبلتها الإتفاقيات السياسية التي شكّلها المستعمرون حسب مصالحهم ، وكبّلها الضباط الأجانب الذين كانوا يقودون جيوشها .

وبعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية بدأت معركة الأحلاف التي هي صورة جديدة من صور التبعية للغرب وإلغاء الاستقلالية ، وقد ارتبطت بعض الدول العربية بهذه الأحلاف ، وربما كان جمال عبد الناصر أبرز حاكم حاول أن يظهر نفسه في بعض المراحل في صورة المعادي لبعض دول الغرب والبعد عن هيمنته ، لكن السبب في هذا الظهور ليس استقلاله السياسي ، وإنما السبب يكمن أن المنطقة كانت في حالة انتقال من النفوذ الإنجليزي والفرنسي إلى النفوذ الأمريكي ، مما سمح له بهذا الهامش من الحركة والدعوى ، وعندما انتهت المرحلة ، وصفّت أمريكا الإستعمار القديم جاء خلفه السادات مُعبّرًا عن المرحلة الجديدة ليطرد الخبراء الروس في صيف عام 1972 م ، وليعلن عبارته المشهورة التي كررها لسنوات متعددة أن 99% من أوراق المنطقة في أيدي أمريكا، ثم نفذ هذه المقولة ، وربط

مصر بأمريكا من خلال اتفاقية كامب ديفيد ليصبح قرارها السياسي مرتهنا علنا بيد أمريكا بعد أن كان سرا في الخفاء .

أما اقتصاد الدولة العربية الحديثة فقد كان مرتبطا ارتباطا كاملا بالدولة المنتدبة بعد الحرب العالمية الأولى ، وكانت هذه الدولة نهبا كاملا للدولة المستعمِرة ، ولما حدث الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ، بقيت الدولة العربية الحديثة تتخبط وتنتقل من أزمة إلى أخرى ، وذلك لعدة أسباب منها : الاضطراب السياسي ، ومنها التخبط في السياسات الاقتصادية الذي تمثل في التطبيق الطفولي للنظريات الاقتصادية الرأسمالية والشيوعية منها ، ومنها النهب الإستعماري ، وقد أدى ذلك كله إلى غياب التصنيع من جهة ، واستفحال الأزمات التي أدت إلى العجز الإقتصادي المستمر من جهة ثانية .

إن غياب الاستقلال السياسي والاقتصادي من الدولة العربية الحديثة أفقدها شرطاً أساسيّاً من شروط الانتصار في حين أن هذا الشرط كان متحققاً لدى الدولة الزنكية والأيوبية مما جعلها تملك عاملاً من عوامل الانتصار .

3- غياب التوافق العقائدي :

اعتمدت الدولة العربية الحديثة القومية العربية كعقيدة من أجل تبرير وجودها ، وكان هذا التوجه العقائدي القومي يعني قطع صلات الأمة بماضيها الإسلامي الذي يقوم على القرآن الكريم و السنة النبوية المشرفة والذي ملأ كل شعب الحياة الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والنفسية ، .. إلخ .

وبالفعل هذا ما قامت به قيادة الدولة العربية الحديثة ، ففرضت التغريب على الأمة ووقع صراع رهيب بين قيم الغرب وعاداته و أفكاره ونظمه وبين قيم الإسلام وعاداته وأفكاره ونظمه ، وكانت حصيلة الصراع انقسام الأمة وتمزقها وسير قسم من أبناء الأمة في تيار التغريب ، وضياع قسم آخر بين التغريب والإسلام .

وهاهو ذا قد مر على الصراع ما يقرب من مائتي سنة ولما ينته بعد ومما زاد في عمق الشرخ الذي تعيشه الأمة ، والتجاذب الذي يمزقها ، أن القيادات العربية تنقل الحضارة الغربية بصورتها الفجّة دون مراعاة لواقع أو ظروف خاصة هذا ما حدث في تطبيق الديموقراطية في السابق وفي تطبيق الإشتراكية في اللاحق ، مع أن دولة كاسرائيل طبقت الديموقراطية والإشتراكية لكنها راعت في كثير من تطبيقاتها ظروفها وتاريخها وقيمها فكان هناك الهستدروت وكان هناك الموشاف وكان هنالك الكيبوتز(12) .

إن الصراع بين الفكر القومي وعقائد الأمة والسعي الدؤوب من قبل قيادات الدولة العربية الحديثة في حمل جماهير الناس على الحضارة الغربية جعل الأمة تعيش في اضطراب وقلقلة وفي غير توافق عقائدي مما أضعفها ، وسهّل انهزامها .

الخلاصة : إن اتصاف الدولة الزنكية بالنزعة التوحيدية والاستقلال السياسي والاقتصادي، والتوافق العقائدي أهّلها للانتصار ، وإن افتقاد الدولة العربية الحديثة لهذه الصفات جعلها تقع في عداد المهزومين .

أيها المؤرخون: لا تظلموا العثمانيين المسلمين! بقلم: زياد محمود أبو غنيمة

قبل أن يدخل الأتراك العثمانيون في الإسلام، لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، فلم يردْ ذكرهم إلا من خلال إشارات عابرة.

وحين دخل الأتراك العثمانيون في الإسلام انقلبت الصورة وأصبحوا محط أنظار المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، بيد أن المؤرخين من غير المسلمين أبدوا اهتماماً ملحوظاً بدراسة تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين.

ولأول وهلة يخيل للمرء أن اندفاع المؤرخين من غير المسلمين في دراسة تاريخ العثمانيين المسلمين كان ينطلق من منطلق علمي سليم، هدفه تتبع العثمانيين المسلمين بأمانة علمية منصفة، ولكن ما أن يطلع المرء على ما أفرزته جهود المؤرخين من غير المسلمين من دراسات عن تاريخ العثمانيين المسلمين، حتى يكتشف أن الغالبية العظمى منهم قد تجاهلوا، وتناسوا مقتضيات الأمانة العلمية والإنصاف، بل أطلقوا العنان لأحقادهم الظاهرة والباطنة، لتكون هي المنطلق الذي ينطلقون من خلاله في تشويه تاريخ العثمانيين المسلمين وإلصاق عشرات الافتراءات التي لا تسندها أية بينات تاريخية بالأتراك العثمانيين المسلمين.

ولئن كنا لا نستغرب أن تصدر مثل تلك الافتراءات عن أقوام فضح الله عز وجل نواياهم تجاه الإسلام والمسلمين في قوله تعالى جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتُّم قد بدتِ البغضاءُ من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآياتِ إن كنتم تعقلونَ) [آل عمران: 118].

***

ولئن كنا لا نستغرب أن يحمل الحقد الأسود أولئك المؤرخين على تجاهل وتناسي أبسط قواعد مقتضيات الأمانة العلمية في عملية التاريخ للأتراك العثمانيين المسلمين، فإن الذي نستغربه أشد الاستغراب، بل ونستهجنه بشدة أن ينزلق الكثير من المؤرخين المسلمين، في حمأة عملية التزوير والتشويه والبهتان التي ألصقت بتاريخ العثمانيين المسلمين..

من ذلك مثلاً، تلك الفرية اللئيمة التي لا يكاد يخلو منها إلا النذر اليسير من الكتب التي تؤرخ للعثمانيين المسلمين، والتي تزعم أن السلاطين العثمانيين كانوا يملكون الحق، بموجب فتوى شرعية إسلامية، في قتل من يشاؤون من إخوانهم أو بني رحمهم، أو أقاربهم، بحجة الحفاظ على وحدة المسلمين، ولقطع الطريق على أية فتنة يمكن أن تبرز إذا حاول أحدهم المطالبة بالسلطة لنفسه.

وكان آخر ما وقع عليه نظري من ترديد لهذه الفرية ما جاء في مقال للأستاذ إبراهيم محمد الفحام في عدد المحرم 1402 هـ تشرين الثاني (نوفمبر) 1981م من مجلة العربي التي تصدر في الكويت، حيث ذهب إلى القول بأن السلاطين العثمانيين الجدد اعتادوا عند توليهم مقاليد السلطة أن يقتلوا إخوانهم جميعاً، ليأمنوا محاولات اغتصاب الملك، وأن هذه الظاهرة تكررت مراراً في تاريخ الدولة العثمانية حتى شمل القتل الإخوة الأصاغر سناً.

وإن كنتُ لا أنفي ولا أنكر وقوع العديد من حوادث التصارع بين بعض السلاطين العثمانيين وبين بعض إخوانهم، بل وأحياناً بينهم وبين أبنائهم، وأن بعض هذه الصراعات كانت تنتهي بمقتل أحد الأطراف المتصارعة، إلا أنني أنفي، وبكل شدة، وبإصرار، ما يزعمه الزاعمون من وجود فتوى شرعية إسلامية تبيح لكل سلطان عثماني جديد أن يقتل من يشاء من إخوانه، أو بني رحمه، بحجة المحافظة على وحدة المسلمين منعاً لوقوع الفتنة.

أقول هذا.. وأتساءل:

أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي أن يقدَّم بين يدي أية رواية تاريخية بالبينات التي تدعم صحتها، من تحديد للأسماء والأمكنة والأزمنة، وتبيين سلسلة الرواة الذين تناقلوا الرواية، إلى أن وصلت إلى راويها الأخير؟

ثم أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي، أن لا يُكتَفى بالتعميم المبهم، بعبارات مبهمة، في رواية تحمل تهمة خطيرة لشعب بأسره هو الشعب التركي المسلم، بل الأمة بأسرها، هي أمة الإسلام، بل للإسلام ذاته الذي كان العثمانيون يحملون لواءة ويمثلونه آنذاك..؟

أين نص الفتوى الشرعية التي يزعم الزاعمون أنها تبيح للسلاطين العثمانيين قتْل بني رحمهم من غير أي مسوغ شرعي؟

أين أسماء العلماء المسلمين الذين أفتوا الفتوى المزعومة هذه؟

وفي زمن أي من سلاطين بني عثمان على التحديد صدرت؟

لقد قرأت بضعة وعشرين مرجعاً، عربياً وتركياً وإنجليزياً، تؤرخ للعثمانيين المسلمين، فما وجدت من بينها مرجعاً واحداً يذكر نص الفتوى المزعومة، أو يذكر اسماً لعالم واحد تنسب الفتوى إليه، بل لقد اكتفى كل مرجع عند ذكر هذه الفرية بسردها وكأنها يقين لا يرقى إليه شك، فلا يحتاج إلى توثيق.

وقبل أن أتحدث بشيء من التفصيل عن تلك الأحداث التي تشبث بها الزاعمون ليرفدوا بها فريتهم، يجدر بي أن أؤكد أن الإسلام يرفض رفضاً قاطعاً هذا الهراء، ولا يقبل مطلقاً أن تهون حياة المسلم، أي مسلم، إلى درجة تباح فيها حياته لمجرد شبهة، أو من أجل وساوس وأوهام تتستر وراء الزعم بالغيرة على جماعة المسلمين من أن تقع فتنة مزعومة لم يقم على وقوعها، أو على مجرد الشك بوقوعها دليل شرعي.

إن طبيعة الإسلام، وأخلاق الإسلام، وإنسانية الإسلام، ترفض رفضاً قاطعاً أن تصدر باسم الإسلام فتوى تبيح لأي إنسان مهما بلغ شأنه، أن يقتل مسلماً إلا في الحالات التي نصّ عليها الشرع : الثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة (المرتد)، والقاتل عمداً (النفس بالنفس).

ألا، وإن كل مسلم مهما كان مستوى علم، يعلم أن قتل النفس، أي نفس، محرّم في شرع الله عز وجل إلا ضمن الحدود التي حددها الله عز وجل.

ولقد ندد الله عز وجل أيما تنديد، بتلك الجريمة التي اقترفها قابيل ابن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام، يوم طوّعت له نفسُه قتلَ أخيه هابيل فقتله:

(واتل عليهم نبأَ ابنيْ آدمَ إذْ قرّبا قرباناً فتقبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر قال لأقتلنكَ قال إنما يتقبّلُ اللهُ من المتقين. لئنْ بسطتَ يديَ لأقتلكَ ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقتلكَ إني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمكَ فتكونَ من أصحابِ النار وذلك جزاء الظالمين. فطوّعتْ له نفسُه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعثَ اللهُ غراباً يبحثُ في الأرض لِيُريَهُ كيف يواري سوأةَ أخيه قال يا ويلتا أعجزتُ أن أكونَ مثلَ هذا الغرابِ فأواريَ سوأةَ أخي فأصبح من النادمين) [المائدة: 27-31].

بل إن الله عز وجل لم يكتفِ بالتنديد بجريمة قابيل، بل جعلها منطلقاً لحكم رباني يؤكد حرمة النفس البشرية تأكيداً قاطعاً لا لبس فيه ولا غموض:

(من أجل ذلكَ كتبنا على بني إسرائيلَ أنه مَن قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتلَ الناسَ جميعاً) [المائدة: 32].

تلك هي الحقيقة، حقيقة تؤكد براءة الإسلام من تلك الفتوى المزعومة، وتؤكد رفض الإسلام لهذا الهراء.

فمن أين جاءت هذه الفرية إذن؟

وما هي دوافعها، وماذا يقصد مروجوها من ورائها..؟

أما الدوافع التي تكمن وراء ترويج هذه الفريةة، فلا أملك إلا أن أقول: إنها نابعة من الحقد الأسود الذي تمتلئ به قلوب العديد من المؤرخين الصليبيين من أعداء الإسلام، ضد الإسلام والمسلمين..

فلقد انتهز بعض المؤرخين الصليبيين الحاقدين، وقلدهم في ذلك عن قصد أو عن غير قصد، بعضُ المؤرخين الذي يحملون أسماء إسلامية، وقوع بعض حوادث الصراع الدموي على السلطة في الدولة العثمانية، وهو أمر لم تسلم منه أمة ن الأمم على مدار التاريخ، فوجدوا في تلك الأحداث متنفساً لينفثوا من خلاله أحقادهم الدفينة ضد الإسلام والمسلمين، فوجهوا سهام افتراءاتهم ضد العثمانيين المسلمين، وهم في حقيقة الأمر يوجهونها إلى الإسلام الذي كان العثمانيون يمثلونه آنذاك.

أقول هذا، وبين يدي أكثر من دليل.

أبدأ بحادثة مقتل الأمير «دوندار» عمّ السلطان «عثمان»، وهي حادثة أرودها المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني»، الذي ألفه عام 1945م، أي في الوقت الذي كانت فيه أنواء الردة الأتاتوركية في أصخب حالات هبوبها على تركيا، بكل ما تحمله من مشاعر العداء للعثمانيين المسلمين، وزعم فيها أن عثمان بن أرطغرل استشار عمه دوندار البالغ من العمر تسعين عاماً في أمر عزمه على محاربة البيزنطيين، فعارضه عمه في الرأي، فلم يتحمل عثمان معارضة عمه فقام بإعدامه بيده برميه بسهم انتقاماً منه بسبب هذه المعارضة.

ولئن كانت هذه الرواية بنصها هذا من الضعف بحيث خلت منها معظم المراجع التي تؤرخ لعثمان بن أرطغرل، ولئن كان من أجلة ضعفها أن إسماعيل حامي دنشمند لم يؤثق روايته لهذه الحادثة بإيراد اسم المرجع، أو اسم المؤرخ الذي نقل عنه الرواية، فإن الحاقدين على العثمانيين المسلمين، بل على الإسلام الذي يمثله العثمانيون، تلقفوا هذه الحادثة، ونسجوا من حولها من سواد حقدهم ما لا تحتمل، فزعموا، وبئس ما زعموا، أن عثمان قتل عمه دوندار بناءً على فتوى شرعية تبيح له قتله خشية أن يزاحمه على السلطنة، مما قد يؤدي إلى وقوع الفتنة بين المسلمين.

ولئن كان من الإنصاف أن نشير إلى أن ما نقلته معظم المراجع الموثوقة التي أرّخت لعثمان بن أرطغرل، عن شدة تعلّق عثمان بأحكام الشريعة الإسلامية، وعن التزامه الصادق بالإسلام، عبادةً، وخلقاً، وتواضعاً، وما نقلته عن توقيره الشديد لعمه الشيخ الكبير دوندار، يجلعنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا على يقين أنه ما فعل ذلك إلا لسبب جلل، أكبر من مجرد الاختلاف في الرأي.

ويرسخ قناعتنا ما أورده المؤرخ التركي المعاصر قادر مصر أوغلو في كتابه «مأساة بني عثمان» المطبوع في إستانبول عام 1979م، في وقت كانت المشاعر الإسلامية في تركيا تشهد فيه شيئاً من أشكال الحرية التي تستطيع معها أن تعبر عن حقيقة رفضها لمشاعر العداء التي حاولت الردة الأتاتوركية ترسيخها ضد العثمانيين المسلمين في نفوس الأتراك.

ففي كتابه ذلك ينقل قادر مصر أوغلو، عن المؤرخ التركي خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، أن دوندار كان طرفاً في مؤامرة اتفق على تدبيرها بالتعاون مع حاكم مدينة «بيله جك» البيزنطي، تستهدف اغتيال عثمان، تمهيداً لوثوب دوندار إلى الزعامةخلفاً لعثمان، فلما انفضح أمر المؤامرة أصرّ عثمان، وهو الحريص علىتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، على تنفيذ حكم الله في عمه جزاء افترافه لجريمةموالاة أعداء الإسلام، والتآمر معهم ضد جماعة المسلمين.

وتلك لعمري نقطة بيضاء ووقفة شماء شامخة تسجَّل في حسنات عثمان بن أرطغرل، إذ أكّد من خلال حرصه على تطبيق شرع الله في عمه على صدق التزامه بالإسلام، وصدق خضوعه لحكمه، وصدق تفضيله لوشيجة العقيدة وارتباطه بها فوق وشيجة الدم والقرابة.

تلك هي حقيقة السلطان عثمان بن أرطغرل مع عمه دوندار تتهاوى أمامها أباطيل الحاقدين وأراجيف المرجفين.

أما قصة السطان مراد بن أورخان مع ولده الأمير «ساجي» فهي أيضاً علامة بارزة تؤكد صدق التزام مراد بالإسلام، وصدق خضوعه لأحكام شريعته.

ففي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه أشرس الحملات المتلاحقة التي تمثلت في العديد من الأحلاف الصليبية التي تجمع تحت ألويتها ملوك وأمراء المجر والصرب والبلغار والأرناؤوط (ألبانيا)، بمباركة من بابا روما أوربيان الخامس، وبتحريض سافر منه [766هـ/1365م].

وفي الوقت الذي كان فيه السلطان مراد يواجه فيه خطراً تمثل في قيام الأمير الإيطالي آميديو بتجميع جيش من الإيطاليين تحت شعار الانتقام للصليب من العثمانيين المسلمين [770هـ/1368م].

وفي الوقت الذي ازداد فيه الخطر ضد الدولة العثمانية المسلمة، بقيام إمبراطور بيزنطة يوانيس الخامس بزيارة روما عام [771هـ/1369م] مستنجداً بالبابا ضد العثمانيين المسلمين، ومعلناً تحوله عن مذهبه الأرثوذكسي إلى المذهب الكاثوليكي في محاولة لاسترضاء بابا روما لإقناعه بعده بالنجدة التي يطلبها ضد العثمانيين المسلمين.

وفي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه خطراً داهماً جديداً تمثّل في نجاح البابا بتجنيد أكثر من ستين ألف مقاتل صليبي بقيادة ملك بلاد الصرب الجديد ووقاشتين [773هـ/1370م].

وفي الوقت الذي كان السلطان مراد لا يكاد ينجح في التغلب على إحدى مكائد الأعداء، حتى يواجه مكيدة أخرى، كان ولده الأمير ساوجي يتآمر سراً مع الأمير البيزنطي أندرونيقوس، الابن الثاني للإمبراطور يوانيس، لتدبير مؤامرة للإطاحة بالسلطان مراد، وتسليم السلطة للأمير ساوجي، وسرعان ما انتقلت المؤامرة من مرحلة التدبير إلى مرحلة التنفيذ، فسار الأميران ساوجي وأندرونيقوس على رأس جيش كانت غالبية جنوده من البيزنطيين، وتمركزا بجيشهما في منطقة لا تبعد كثيراً عن القسطنطينية، فسارع السلطان مراد لملاقاتهما، فما كاد يقترب منهما حتى خارت معنويات المتآمرين ففر الجنود البيزنطيون من أنصار أندرونيقوس، ولجأ الجنود العثمانيون من أنصار الأمير ساوجي إلى جيش أبيه السلطان مراد، فأصبح ساوجي وأندرونيقوس من غير جيش، فلم يجدا أمامهما مفراً من الهرب، ففرا إلى مدينة »ديمومة«، فلحق بهما السلطان مراد واضطرهما إلى الاستسلام.

وجمع السلطان نخبة من القادة والعلماء والقضاة لمحاكمة ولده ساوجي، فحكوا عليه بالموت جزاء خروجه على طاعة ولي الأمر وجزاء موالاته للكفار أعداء الإسلام والتحالف معهم قولاً وفعلاً في محاربة المسلمين.

وأمر السلطان مراد بتنفيذ حكم الشرع في ولده مسجلاً في ذلك صدق ولائه لحكم الشريعة، وصدق التزامه بالإسلام، ولكأني به وهو يفعل ذلك، كان يستشعر قوله تعالى عز وجل: (لا تجدُ قوماً يؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخر يوادّون من حادّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئكَ كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألاَ إنّ حزبَ الله هم الغالبون) [المجادلة: 22].

ولقد كان من الطبيعي أن يستغل الحاقدون حادثة مقتل ساوجي، فتلقفوها وطفقوا ينسجون من حولها الأقاويل والافتراءات ليرفدوا من خلالها فريتهم عن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسطان العثماني المسلم قتل من يشاء من بني رحمه.

وكان من الطبيعي أن يشتط الحقد بأعداء الإسلام، فينفثوا حقدهم ضد السلطان مراد ويتهمونه بالوحشية، وتحجُّر عاطفة الأبوة في قلبه، وما دروا أن صدق الالتزام بالإسلام يجعل وشيجة العقيدة فوق كل وشيجة. وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد الذي علّم المسلمين هذه الحقيقة الإيمانية حين قال: »واللهِ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها.«

وأنتقلُ إلى حادثة قتل السلطان بايزيد بن مراد (الصاعقة) لأخيه الصغير يعقوب، فلا أجد غضاضة في تأكيد وقوعها، ولا أجد حاجة إلى محاولة تبريرها. فقد استهل يايزيد عهده فعلاً بارتكاب جريمة بشعة حيث أقدم على قتل أخيه الصغير يعقوب بتحريض من بعض أنصاره الذين طفقوا يوغرون صدره ضد أخيه، الذي كان شجاعاً، قوي الشخصية، ووجدتْ وشايةُ المغرضين هوى في نفس بايزيد الذي خشي أن يزاحمه يعقوب على السلطنة، واشتطت به وساوسه حين أخذ الوشاةُ يذكرونه بأن جده أورخان بن عثمان ولي السلطنة رغم كونه الأصغر سناً من أخيه الأمير علاء الدين.

ولئن كنت أنكر أن بايزيد قد ارتكب جريمته البشعة فعلاً، بعد أن غلبه هواه، وزينت له وساوسه أن يقترف تلك الجريمة، وطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. فالجريمة يتحمل وزرها بايزيد وحده، وليس من العدل ولا من المنطق أن يزجّ بالإسلام في عملية تبريرها.

وينبغي أن أشير هنا إلى أن الجفاء كان مستحكماً بين العلماء والسلطان بايزيد، لدرجة أستبعد معها أن يجد بايزيد عالماً واحداً يستجيب له فيصدر تلك الفتوى التي ينسب استصدارها في بعض المراجع إلى بايزيد.

ولقد بلغ من حدة ذلك الجفاء أن العالم المؤمن القاضي شمس الدين محمد حمزة الفناري ردّ شهادة السلطان بايزيد في إحدى القضايا، فلما راجعه بايزيد في ذلك، أجابه القاضي المؤمن بأنه ردّ شهادته لأنه تارك لصلاة الجماعة.

بل لقد بلغ الجفاء بين العلماء والسلطان بايزيد إلى حد أقرب ما يكون إلى القطيعة بسبب استنكارهم لوقوعه تحت سيطرة وتأثير زوجته النصرانية الأميرة أوليفيرا شقيقة ملك الصرب لازار، ونماديه بتحريض منه على إدمان شرب الخمر، وإقامة حفلات اللهو، ويذكر المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه »موسوعة التاريخ العثماني« أن بايزيد ذهب ليتفقد العمل في بناء مسجد »أولو جامع« في بورصة، وكان قد أوشك بناؤه على الانتهاء، فالتقى خلال تجواله في المسجد بالعالم المؤمن محمد شمس الدين البخاري، فسأله على مسمع من الناس عن رأيه في نابء المسجد، وهل يرى في البناء أي نقص..؟ فأجابه العالم المؤمن بجواب ساخر يحمل بين طياته مشاعر عدم الرضى عن سيرة بايزيد المنافية للإسلام، فقال له: بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإننا لا نجد أي نقص في بناء المسجد، أما بالنسبة إليك يا بايزيد، فإني أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ بها خمورك بجانب المحراب.

أفيعقل بعد هذا أن يجد بايزيد عالماً واحداً يفتي بقتل أخيه من غير مسوّغ شرعي؟

ولقد وجد الحاقدون رافداً جديداً يدعمون به فريتهم فيما وقع من صراع دموي بين أبناء بايزيد الصاعقة، حين قتل محمد بن بايزيد إخوته عيسى ثم سليمان ثم موسى ليتفرد بحكم السلطنة.

ولئن اشتط المغرضون في حقدهم فزعموا أن محمد بن بايزيد قد قتل إخوته بموجب تلك الفتوى الشرعية المزعومة، فإن الحقائق التاريخية تؤكد أن ما جرى بين أبناء بايزيد من اقتتال دموي كان اقتتالاً مصلحياً من أجل الطموحات الشخصية بكل واحد منهم للجلوس على عرش السلطنة، وليس من العدل والإنصاف إن يزج بالإسلام في هذا المقام.

وينبغي أن أشير إلى أن شهوة الجلوس على عرش السلطنة قد اشتطت بأبناء بايزيد لدرجة لم يجدوا معها غضاضة في الاستعانة بأعداء الإسلام من البيزنطيين ضد بعضهم بعضاً، كما فعل سليمان بن بايزيد حين تنازل لملك الروم »إيمانويل الثاني« عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود مقابل الوقوف إلى جانبه ضد أخويه الآخرين عيسى ومحمد.

هذا، وينبغي أن أشير إلى أن بعض المؤرخين المغرضي زعموا أن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسلطان قتل بني رحمه من غير مسوغ شرعي هي تلك الفتوى التي أصدرها الشيخ سعيد أحد تلاميذ الشيخ التفتازاني، والتي ورد نصّها على النحو التالي: »من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جمعكم، فاقتلوه.«

والحقيقة أن هذه الفتوى قد صدرت عام [823هـ/1420م] كما يورد المؤرخ التركي عبد القادر داده أوغلو في كتابه »التاريخ العثماني المصوّر« ضد أحد قضاة العسكر وهو الشيخ بدر الدين الذي ثار على السلطان وتزعم حركة تنادي بإلغاء التفرقة بين الأديان، وبتوزيع الأموال سواسية بين الناس، وقد اندس في حركة الشيخ بدر الين، كما يروي الأستاذ محمد فريد في كتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية»عدد من اليهود والنصارى، وعندما وقع بدر الدين في الأسر بعد معركة حامية الوطيس، حوكم أمام هيئة من كبار العلماء والقضاة، فصدرت بحقه الفتوى بنصها الذي أوردته آنفاً، وبتوقيع الشيخ شعيد، ويروي المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» أن الشيخ بدر الدين قد وقع بنفسه أيضاً على الفتوى اعترافاً بذنبه، وتم إعدامه شنقاً على ملأ من الناس في السوق الرئيسي في مدينة سراز.

ولقد وجد المغرضون مبرراً آخر لرفد بهتانهم بخصوص الفتوى المزعومة في حادثة إعدام السلطان مراد الثاني لعمه مصطفى بن بايزيد.

وحقيقة الأمر أن مصطفى بن بايزيد كان قد اختفى وانقطعت أخباره بعد هزيمة بايزيد (الصاعقة) في معركة أنقرة أمام تيمورلنك، ثم ظهر فجأة في زمن أخيه السلطان محمد جلبي بن بايزيد مطالباً بالسلطنة لنفسه، واستنجد بأعداء الإسلام من البيزنطيين فأمدوه المساعدات، وأوعزوا لأمير بلاد الفلاخ بإمداده بجيش كبير، ولكن مصطفى فشل في تحقيق أي نجاح، واضطر إلى اللجوء إلى سلانيك التي كان الأمير سليمان بن بايزيد قد أعادها إلى السيطرة البيزنطية مقابل وعدهم له بمساعدته ضد إخوته، كما أسلفت قبل قليل، واتفق السلطان محمد جلبي مع إمبراطور بيزنطة على إبقاء أخيه مصطفى في سلانيك تحت مراقبة الإمبراطور، مقابل مبلغ من المالن استمر الأمر على هذا النحو إلى أن ولي السلطنةمراد الثاني بن جلبي فتحرش به الإمبراطور «إيمانويل الثاني» في محاولة منه لإعادة هيبة الإمبراطورية، وطلب منه عقد معاهدة يتعهد مراد بموجبها بعدم القيام بأية محاولة لغزو القسطنطينية، فلما وقف السلطان مراد موقفاً حازماً في وجه إيمانويل ورفض مطالبه عمد عمانويل إلى استدعاء الأمير مصطفى وأمده بعشر سفن حربية مدججة بالجنود والسلاح، فتمكن مصطفى من الإستيلاء على مدينة وميناء غاليبولي، ثم تمكن من التغلب على الجيش العثماني الذي أرسله السلطان مراد لمحاربته بقيادة وزيره بايزيد باشا، فسار السلطان مراد الثاني بنفسه لملاقاة عمه مصطفى الذي لم يلبث أن وقع في أسر مراد، ليواجه عقوبة الإعدام شنقاً، جزاء خيانته لله ولرسوله وللمؤمنين، وهل من خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين أعظم من موالاة في جماعة المسلمين، ينبري هؤلاء ليزعموا أن الإسلام يبيح للسلطان قتل بني رحمه كيفما يشاء..؟

فرية باطلة ... وبهتان عظيم..

وأجدني هنا مضطراً للتوقف وقفة أردّ بها فرية خبيثة ألصقت بالسلطان محمد الفاتح، فقد درج بعض المؤرخين، وهم يؤرخون لحياته، على الزعم بأنه قام بقتل أخيه الرضيع أحمد جلبي بعد أيام قليلة من تسلمه مسؤولية السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان مراد، خشية أن يزاحمه على السلطنة، ومن المؤسف أن هذا الزعم لم يقتصر على المؤرخين غير المسلمين، وإنما وقع في أحبولته عدد من المؤرخين المسلمين.

ولئن كانت هذه الفرية التي ألصقت بالسلطان محمد الفاتح تكون أوهمن من بيت العنكبوت، إلا أنني أجد من الواجب التوقف عندما وتفنيدها، لكي لا يبقى بعد ذلك عذر لأي مؤرخ يحترم نفسه، ويحترم شرف الكلمة التي يؤرخ بها، أن يستمر في ترديد هذا البهتان العظيم ضد السلطان محمد الفاتح.

هل يعقل أن سلطاناً ولي السلطنة في عهد أبيه، وتحت كنفه، ثم وليها من بعد وفاة أبيه، وقد اشتدّ ساعده، ونضجت خبرته، والتفت الأمة من حوله تحوطه بالحب والطاعة، هل يعقل أن هذا السلطان يغار من أخ له رضيع، فيخشى أن ينازعه على السلطة..؟ وكيف يتسنّى لطفل رضيع، وأنى له، أن ينازع على السلطنة، وهو الرضيع الذي إن تأخرت أمه عليه بالحليب يوماً مات جوعاً.

ثم هل يصدق إنسان عاقل، أن محمداً الفاتح، الذي تربى على مائدة القرآن، على يد خيرة علماء عصره، أمثال الشيخ أحمد بن إسماعيل الكوراني الذي كان الفاتح يسميه «أبا حنيفة زمانه»، والشيخ تمجيد أوغلو، والشيخ محمد جلبي زاده، والشيخ مولا إياش، والشيخ الغوراني، والشيخ سراج الدين الحلبي، والشيخ آق شمس الدين، ويمكن أن يفكر بمثل هذا الأمر الفظيع..؟

بل، لنفرض جدلاً أن محمداً الفاتح كان يوجس خيفة أن ينازعه أخوه الرضيع على السلطنة، أفما كان يستطيع أن يحتويه تحت كنفه، ويربيه على الإخلاص له، بدل أن يقتله؟

ولماذ يستبق محمد الفاتح الأمور فيقتل أخاه الرضيع، وقد كان بإمكانه أن ينتظر وهو مطمئن البال بضعة عشر عاماً حتى يكبر أخوه، فيتحقق من نوازعه ونواياه؟

من هنا نستطيع أن نتبين انتفاء المصلحة الشخصية للسلطان محمد الفاتح من قتل أخيه الرضيع.

ولننتقل الآن إلى مناقشة الطريقة التي تمت بها عملية القتل المزعومة، فقد زعم مروّجو هذه الفرية أن السلطان محمداً الفاتح أرسل أحد قواده، واسمه علي بك، إلى جناح النساء لقتل أخيه الرضيع، فلما علم علي بك أن الطفل موجود في حمام النساء حيث تقوم مربيته بغسله، اقتحم الحمام وأمسك بالطفل الرضيع وغطسه تحت الماء حتى مات مختنقاً غرقاً..

هل يصدق عاقل أن محمد الفاتح، وهو الذكي المحنك، يقدم على قتل أخيه الرضيع بهذه الصورة المكشوفة الساذجة؟ وهل كان عاجزاً عن تكليف إحدى النساء، كزوجته، أو إحدى خادماتها، بتنفيذ عملية القتل دون إثارة انتباه أحد، بدل من أن يرسل رجلاً إلى جناح النساء، وهو أمر غير مألوف، بله أن يسمح له بأن يقتحم هذا الرجل حمام النساء، حيث يكنّ فيه متحللات من حجابهن، ومتخففات من كثير من ملابسهن، وفي ذلك ما فيه من خروج مستهجن عن المألوف، من شأنه لو تحقق فعلاً أن يثير من هياج النساء، وضجيجهن، وصخبهن، ما يضطر ذلك الرجل إلى الفرار قبل أن ينفذ مأربه، مهما بلغت به الجرأة والنذالة؟

إذن، ما هي حقيقة هذه الفرية؟

الحقيقة أن المربية التي كان موكلاً إليها أمر العناية بالطفل الرضيع أحمد، انشغلت عنه لبعض شأنها بينما كانت تغسله، فوقع في حوض الماء، فمات مختنقاً غرقاً قبل أن تتداركه الأيدي التي امتدت لإنقاذه بعد فوات الأوان.

وتصادف بعد غرق الطفل بأيام قليلة أن أحد ضباط الجيش، واسمه علي بك، ارتكب جريمة عقابها الإعدام، فلما أعدم، وجد الحاقدون مادة جديدة خيّل إليهم أنهاتدعم بهتانهم، فطفقوا يزعمون أن علي بك هو الذي أغرق الطفل الرضيع أحمد، وأن السلطان محمد الفاتح خشي أن يفشي هذا الرجل سره فقتله، ومن هنا جاءت الفرية على النحو الذي أشرت إليه، وينبغي الإشارة إلى أن «إدوارد سي كريسي» يتبنى هذا الزعم في كتابه «تاريخ العثمانيين الأتراك» المطبوع بالإنجليزية في بيروت في عام 1961م، ويدّعي أن السطان الفاتح أقدم على قتل الضابط علي بك متهماً إياه بقتل أخيه الرضيع دون أن يكون للسلطان علم بذلك.

ولو أنهم توقفوا عند هذه الفرية وحدها لهانَ الأمر، ولكنهم ما برحوا أن بدأوا ينسجون من حولها المزيد من الافتراءات، فزعموا أن محمداً الفاتح، لم يكتف بقتل أخيه، بل أصدر قانوناً أعطى للسلطان الحق في قتل من يشاء من إخوته وأبنائه وأبناء عمومته وخؤولته، لقطع الطريق على أي منهم أن ينافسه على السلطة.

ولقد أوضح المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» الدافع الذي جعل السلطان محمد الفاتح يصدر هذا القانون فقال:

«حين وجد السلطان محمد الفاتح أن أكبر خطر يهدد الدولة العثمانية في الفترة التي سبقت توليه مقاليد السلطنة، نجم عن تكرار حوادث الانشقاق التي كانت تقع بين الأمراء العثمانيين، والتي كانت تصل في أكثر الأحيان إلى درجة الاقتتال، وتؤدي إلى انقسام الدولة إلى فريقين أو أكثر، مما كان يؤثر على وحدة الدولة، ويغري خصوم الإسلام بها، فقد رأى السلطان محمد الفاتح أن يضع قانوناً أسماه «قانون حفظ النظام للرعية» أكد بموجبه أن الموت سيكون مصير كل من يعلن العصيان المسلح ضد السلطان، ويتعاون مع أعداء الإسلام ضد المسلمين.»

ويردف إسماعيل حامي دنشمند أن هذا القانون كان سبباً في انحسار، أو على الأقل، في تقليص حوادث العصيان المسلح، التي كادت أن تصبح أمراً شائعاً في الدولة العثمانية قبل صدور هذا القانون.

وإن المرء لتتملكه الدهشة، حين يرى أن كل دول الدنيا، قديمها وحديثها، لا تخلو قوانينها من مثل هذا القانون، ومع ذلك لا تجد أحداً يعترض عليها أو يشوه مقاصدها، كما كان يفعل المغرضون تجاه الدولة العثمانية!

وبعد:

فإني أحسب أن القارئ الفطن، يدرك من خلال ما أوردتُ من حقائق، أن الحاقدين إنما يهدفون من وراء التركيز على تحريف تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين إلى الإساءة إلى الإسلام ذاته، ومن خلال الإساءة إلى الأتراك العثمانيين المسلمين، حين يظهرونهم بمظهر القوم المتوحشين الذين انعدمت الرحمة من قلوبهم، ومن خلال الإيحاء بأن مسألة قتل السلاطين لإخوانهم كانت أمراً عادياً مألوفاً عندهم.

أقول هذا، ولا أنفي أن يكون في تاريخ بني عثمان، وخاصة في عصورهم المتأخرة، بعض الأمور التي لا تنسجم مع الإسلام، وتتعارض مع أحكامه، وليس الذنب في ذلك ذنب الإسلام، وإنما ذنب المسيء نفسه.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 53، جمادى الأولى، 1405 هـ

الجمعة، 28 مايو 2010

عن سماحة الأتراك أتحدث ........هذه المقالة ضمن سلسلة مقالات كتبها الدكتور عبد العظيم الديب عليه رحمة الله بشكل خاص لإسلام أون لاين لم يسبق لها النشر

نتابع الحديث عن سماحة الأتراك، وجهودهم في نشر الدعوة، وعمدتنا في ذلك المصادر الأجنبية، التي لخصها لنا، واعتمد عليها (توماس أرنولد)، وعنه نأخذ، ونلاحظ أن هؤلاء مع اعترافهم بسماحة الأتراك، وأنهم لم يدفعوا أحدا للدخول للإسلام قسراً، مع اعترافهم بهذا إلا أنهم يسمّون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة (خداعاً)، ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئاً.
يعبر الباحث الأوروبي عن اهتمام الأتراك بالدعوة، فيقول:
" وقد رأى الأتراك أن أعظم خبرٍ يستطيعون تقدمه لأي فردٍ هو أن يهدوه إلى دين الإسلام، وفي سبيل هذه الغاية لم يدعوا وسيلة للإغراء (!!) إلا فعلوها: يحدثنا رحالة هولندي، عاش في القرن السادس عشر أنه بينما كان يُظهر إعجابه بمسجد أيا صوفيا الكبير حاول بعض الأتراك أن يؤثروا في عواطفه الدينية من طريق إحساسه بالجمال، فقالوا له:" إنك لو أصبحت مسلماً، لاستطعتَ أن تأتي هنا كل يوم من أيام حياتك" وبعد ذلك بقرن تقريباً حدث لرحالة إنجليزي ما يشبه تلك الحادثة، إذ قال:" وقد يسألون مسيحياً بدافع من فيض حماسهم، في أدب جم (انظر في أدب جم) كما سألوني أنا نفسي عند مدخل مسجد أيا صوفيا: لماذا لا تصبح مسلماً، فتكون كأحدنا؟" ويتحدث عن تلك الاحتفالات التي يقيمها الأتراك ابتهاجاً بالمسلمين الجدد مبينا دلالتها، وواصفاً إياها، فيقول:" ومما يدل على الحب الروحي المتوقد الذي جعل هؤلاء القوم في مثل هذه المنزلة من الغيرة على نشر الدين، تلك الأفراح الشعبية التي كانوا يُحيّون فيها من دخلوا طوعاً من المسلمين الجدد في الإسلام. فكان المسلم الجديد يمتطي حصاناً، ويطاف به في طرقات المدينة، وهم في نشوة النصر."
ويتحدث عن مكافأتهم للمسلمين الجدد (تأليف قلوبهم)، فيقول:" فإذا توسّموا في هذا المسلم إخلاص النية، أو كان ذا مكانة استقبلوه بتكريم عظيم، وأمدّوه بما يعينه".
ثم يؤكد أن هذا الشغف بالدعوة، والحرص على هداية الناس للإسلام، كان سمة يُعرف بها الأتراك، فيقول:" إن في نفوس الأتراك غيرة لا يكاد يصدقها العقل حين يبتهلون إلى الله أن يحوّل الناس إلى الإسلام، أو بعبارة أصح أن يحوّل المسيحيين إلى ديانة الأتراك المارقة (تأمّل) إنهم كل يومٍ يبتهلون إلى الله في مساجدهم مخلصين أن يؤمن المسيحيون بالقرآن، وأن يهتدوا على أيديهم، ولم يدعوا للتأثير وسيلة من وسائل الترهيب (كذا) والترغيب إلا فعلوها" أ.هـ.
وهذا الكلام ينطق بما في قلبه صاحبه من حقد وتعصب، فالديانة الإسلامية مارقة، وبعد أن شهد للأتراك بأنهم لم يرغموا أحداً على الإسلام كان لا بد أن يدسّ كلمة (الترهيب) ناسياً أنه يناقض نفسه.
ثم يفسّر سرّ نجاح الأتراك في الدعوة إلى الإسلام، مبيناً حالة الانحطاط والفساد التي كانت تسود الكنيسة الإغريقية، والحياة الإجتماعية، ويجعل ذلك من العوامل التي أدت أو ساعدت على نجاح الأتراك في نشر الإسلام، فيقول:
"إن حالات المجتمع المسيحي نفسه قد جعلت هذه الجهود التركية التي تنطوي على الغيرة والحماسة الدينية أشد أثراً، وأعظم قيمة".
وبعد تدهور الكنيسة الإغريقية أهم هذه الأسباب، إلى جانب طغيان الدولة البيزنطية في الشئون الزمنية (أي الدنيوية)، أضف إلى ذلك الاستبداد في الأمور الدينية، مما جعل الحياة العقلية ترزح تحت عبء قرار حاسم حرّم كل مناقشة في شئون الأخلاق والدين" أ.هـ.
وبعد أن أفاض في تصوير هذا الفساد، قال:
" كل ذلك جعل الناس يتقبلون الإسلام بصدرٍ رحب نظراً لتعاليمه الواضحة، المنهومة التي تقوم على الوحدانية، وقد انتهت إلينا أخبار عن طوائف كبيرة من الناس أسلموا، ولم يكونوا من البسطاء والعامة فحسب، كانوا من العلماء على اختلاف طبقاتهم ومناصبهم وحالاتهم.
كما انتهت إلينا أخبار عن الطريقة التي أجرى بها الأتراك أرزاقاً أسخى على هؤلاء الرهبان والقساوسة الذين اعتنقوا الإسلام، حتى يكونوا قدوة قد تدفع غيرهم إلى اعتناق الإسلام.
وبينما كانت أدرانة لا تزال عاصمة الأتراك (أي قبل فتح القسطنطينية عام 1453م) كان البلاط قد اكتظ بالذين أسلموا. ويقال إنهم كانوا يؤلفون السواد الأعظم من أصحاب الجاه والسلطان هناك، وكثيراً ما انحاز الأمراء البيزنطيون وغيرهم إلى صفوف المسلمين، ووجدوا منهم ترحيباً كبيراً: ومن اسبق هذه الحالات ما يرجع تاريخه إلى سنة 1140م عندما أسلم ابن أخي الإمبراطور جون كومنين John Comnenes وتزوج إحدى بنات مسعود سلطان قونية" أ.هـ.
وأعتقد أن هذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق. ولكن...؟؟

يواصل (توماس أرنولد) حديثه عن سماحة الأتراك مع المسيحيين، وعن شغفهم بالدعوة إلى الإسلام، وكيف تسابق المسيحيون إلى الدخول في الإسلام، فيقول:
" ولقد باشر العثمانيون السلطة على الرعايا المسيحيين منذ الأيام الأولى التي قاموا فيها بتوسيع مملكتهم في آسيا الصغرى. ولم تكد حاضرة الإمبراطورية الشرقية القديمة تسقط في أيدي العثمانيين سنة 1453م، حتى توطدت العلاقات بين الحكومة الإسلامية والكنيسة المسيحية بصفة قاطعة وعلى أساس ثابت.
ومن أولى الخطوات التي اتخذها محمد الثاني، بعد سقوط القسطنطينية وإعادة إقرار النظام فيها، أن يضمن ولاء المسيحيين بأن أعلن نفسه حامي الكنيسة الإغريقية. فحرم اضطهاد المسيحيين تحريماً قاطعاً، ومنح البطريق الجديد مرسوماً يضمن له ولأتباعه ولمرءوسيه من الأساقفة حق التمتع بالامتيازات القديمة والموارد والهبات التي كانوا يتمتعون بها في العهد السابق. وقد تسلم جناديوس، أول بطريق بعد الفتح التركي، من يد السلطان نفسه، عصا الأسقفية التي كانت رمز هذا المنصب، ومعها كيس يحتوي على ألف دوكة ذهبية، وحصان محلي بطاقم فاخر، وكان يتميز بركوبه في خلال المدينة تجف به حاشيته" أ.هـ.
ولم يقتصر الأمر على التوقير والاحترام، ومظاهر التقدير والتكريم للبطريرك، بل صار للبطريرك سلطة واسعة على رعايا الكنيسة، واستقلال كامل بشئون الطائفة من الناحية الدينية. يقول توماس:
" ولم يقتصر المسلمون في معاملة رئيس الكنيسة على ما تعود أن يلقاه من الأباطرة المسيحيين من توقير وتعظيم، بل كان متمتعاً أيضاً بسلطة أهلية واسعة، فكان من عمل البطركية أن تفرض الغرامات، وتسجن المجرمين في سجن معد لها، بل كان لها أن تحكم بالإعدام في بعض الأحيان. بينما صدرت التعليمات إلى الوزراء وموظفي الحكومة بتنفيذ هذه الأحكام: وكانت المراقبة التامة على الشئون الروحية والكنسية (وهي التي لم تتدخل فيها الحكومة التركية مطلقاً بعكس السلطة المدنية التي كانت مخولة للدولة البيزنطية) متروكة كلها في أيدي البطريك وأعضاء المجمع الأعظم، وكان في استطاعة البطريك أن يدعوهم متى شاء. كذلك كان في استطاعته أن يفصل في كل شئون العقيدة والشريعة من غير أن يخشى تدخلاً من جانب الحكومة" أ.هـ.
ولم يقتصر الأمر في نفوذ البطريرك على الكنيسة ورعاياها، بل كان له أيضاً كلمة مسموعة لدى السلطات التركية يجاب طلبه، وتُقبل شفاعته، يقول أرنولد:
"ولما كان هذا البطريك معترفاً به موظفاً في الحكومة السلطانية، كان يستطيع أن يقوم بعملٍ كبير في رفع الظلم عن المظلومين بأن يوجه أنظار السلطان إلى أعمال الحكام الظالمين" أ.هـ.
وقد شملت هذه المعاملة رؤساء الكنائس في الولايات، ولم تكن قاصرة على بطريرك الكنيسة الكبرى فقط، قال أرنولد:" كذلك عومل الأساقفة من الإغريق في الولايات معاملة تنطوي على رعاية بالغة، وعهد إليهم كثيراً من القضايا المتعلقة بشئونهم المدنية، إلى حد أنهم ظلوا حتى عصور حديثة يعملون في اسقفياتهم كما لو كانوا عمالاً من الأتراك على الأهالي الأرثوذكس، وبذلك حلوا محل الأرستقراطية المسيحية القديمة التي استأصل الغزاة شأفتها. ونجد أن رؤساء الكنيسة كانوا بوجه عام أكثر نشاطاً باعتبارهم من الأتراك منهم باعتبارهم قساوسة من الإغريق: وطالما علموا شعبهم أن السلطان قد اكتسب قبولاً إلهياً بوصفه حامي الكنيسة الأرثوذكسية.
ومن ثم أذيع منشور يكفل للأرثوذكس حق استخدام الكنائس التي لم تصادرها الحكومة لتحويلها إلى مساجد، ويمنح لهم حق الاحتفال بطقوسهم الدينية تبعاً لعاداتهم القومية."
(ولم يبين صاحبنا أن هذه الكنائس التي حولت إلى مساجد كان كل رعاياها قد تحوّلوا إلى الإسلام. ولكنه ـ كما قلنا لم يسلم من تحامله على الأتراك أبداً)
وقد كان من أثر ذلك التسامح ما عبّر عنه بقوله:
"وكان من أثر ذلك أن الإغريق، ولو أنهم كانوا يفوقون الأتراك عدداً في كل الولايات الأوروبية التابعة للدولة، قد جعلهم التسامح الديني الذي تمتعوا به، وما نالوه من حماية لحياتهم وأموالهم، يسرعون إلى الموافقة على تغيير سادتهم، وإيثار سيادة السلطان العثماني على سيادة أية سلطة مسيحية".
وقد سبقت الاتراك سُمعتهم، وحسن سيرتهم، مما كان يسهّل عليهم الفتوحات، "فقد كان الغزاة العثمانيون في بقاعٍ كثيرة يلقون ترحيباً من جانب أهل البلاد، ويعدُّنهم مخلّصين لهم من الحكم الظالم المستبد... فقد صبرّوا الشعب في حالة من العبودية يرثى لها" أ.هـ بنصه.
فهذه شهادات قاطعة ينقلها لنا (توماس أرنولد) عن المؤرخين الأوروبيين، والرحالة المعاصرين الذين يشهدون للأتراك شهادةً عن عيان "والفضل ما شهدت به الأعداء" "وشهد شاهد من أهلها."
فمن الذي رسم هذه الصورة البشعة للأتراك، ووضعها في بؤرة الشعور لكل المثقفين والدارسين؟؟ نعوذ بالله من الخذلان. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هل انتهى علم السياسة حقا?

ملخص :
- يمر علم السياسة الآن بفترة حرجة من المراجعات النقدية الشاملة بدأت خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي .
- رغم أن علم السياسة شهد توسعات كبيرة إلا أن علم السياسة القديم يعاني من تشتت نظري وانقسام منهجي عنيف وحركة تمرد من حقل رئيسي مثل ( حقل الفكر السياسي ) وحقل العلاقات الدولية الذي يحاول تأكيد استقلاله .
- الغرض الرئيسي للبحث : أن نهاية علم السياسة واقع فعلا – مع شيوع أفكار مثل نهاية التاريخ – نهاية الدولة .... وأن النظريات المختلفة في علم السياسة لم تعد قادرة علي التعايش فيما بينها ولم يعد بالإمكان الجمع بين الحقول الرئيسية ( الفكر السياسي – العلاقات الدولية – السياسة المقارنة ) تحت سقف واحد خاصة أن كل منها يسعي للانفصال عن علم السياسة ... والخلاصة أن علم السياسة بلغ مرحلة لا علم ولا سياسة .... فهل انتهى حقا علم السياسة .
مقدمة :
- علم السياسة أساسا فرع من العلوم الاجتماعية يتناول – بالدراسة والتحليل :
1- العلاقة بين الدولة والسلطة والسلوك السياسي وأفكار ومعتقدات أفكار المجتمع ( علم الدولة ومؤسساتها ) .
2- علم السلطة وكيفية ممارستها أو الوصول إليها أو البقاء فيها .
3- علم السلوك السياسي للأفراد في المجتمع والعوامل المؤثرة أو المتحكمة فيه .
4- علم القيم والإمكانات التي يحملها الأفراد والجماعات من أجل مجتمع أفضل .
- زاد الاهتمام بهذا العلم لزيادة مساحة السياسة وأثرها في كل المجالات .
- تعدد اهتمامات علم السياسة وتنوع فروعه حتى أصبحت تتباعد عن بعضها البعض .
- تعدد نظريات علم السياسة ومدارسه ( فلسفية – واقعية – قانونية – سلوكية – ما بعد السلوكية ... ) .
- علم السياسة الآن مختلف كل الاختلاف عن علم السياسة في صيغته الكلاسيكية والتقليدية .
- بدأ علم السياسة القديم بالبحث عن الفضيلة والعدالة – ثم أصبح أكثر تواضعا وواقعية ... بالتركيز علي السلطة ( بداية من ميكافيللي و ثم في مرحلة لاحقة كان التركيز علي الدولة بوصفها الوحدة الأساسية ( مع ظهور الدولة القومية ) مما أحدث الانسجام والتركيز فى علم السياسة .
بعد الحرب الثانية ظهرت ( الثورة السلوكية ) التي يراها البعض الولادة الحقيقية لعلم السياسة من خلال دراسة السلوك السياسي للأفراد دراسة ميدانية بالمنهج العلمي وبقدر من الحياد والموضوعية وحاليا ( في نهاية القرن العشرين ) اقتنع الجميع بعدم علمية علم السياسة وبرزت مدرسة ما بعد السلوكية الذي اسقط إدعاء العلمية عن علم السياسة وأفسح المجال لعدد لا نهائي من الحقول والفروع والنظريات والمدارس المتضاربة والمتنازعة مما أدخل علم السياسة حالة التشتت والغموض .
عصر السياسة : تغلغلت السياسة في حياة الإنسان المعاصر وأصبحت تتصدر قائمة الأولويات في كل المجتمعات الحديثة حتى أصبح من المشروع تسمية هذا العصر – دون غيره – بعصر السياسة .
- تسيست – الرياضة – الفن – السياحة – البيئة – الازدحام – الغذاء – الإيدز – الإجهاض - التدين ... كل هذه القضايا العامة والخاصة تحولت إلي قضايا سياسية ساخنة وخلاقة تؤدي دورا مهما وحاسما خلال الانتخابات وتقييم أداء الحكومات ....
- أصبح فهم السياسة مهما وحيويا لكل فرد بغض النظر عن ممارسة السياسة أو الوصول للسلطة وإنما لفهم الحياة وتحولاتها .... لكي يقرر الإنسان مصيره ويحدد موقعه ويحافظ علي حقوقه ويتحكم في بيئته ...
- ولكن هذا الفهم ليس بالأمر اليسير فالسياسة مازالت غامضة كل الغموض حتى للسياسيين الذين يمارسونها ويكونون من أكثر ضحاياها . وهي كذلك بالنسبة لعلماء السياسة ( صعوبة تحديد تعريف موحد للسياسة – أو الاتفاق حول معانيها المتعددة ).
- السياسة لها أكثر من تعريف وأكثر من عنصر وأكثر من شكل ( بسيط – معقد – فلسفي / واقعي – رسمي / قانوني / سلوكي ) تتفاوت من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان . تختلف نظرة عالم السياسة الذي يدرسها عن الفكر الذي يحللها بتجرد .
- هذا العجز عن تعريف معنى السياسة يشكك في جدوى علم السياسة .
علم كل العلوم
بدأ علماء السياسة مؤخرا في البحث عن تاريخ علم السياسة في سعيهم لتأسيس علم سياسة جديد وهذا البحث أدى إلى نتيجة مقلقة هي ان هناك أكثر من صيغة لعلم السياسة ( قديم وحديث / تقليدي وسلوكي / فلسفي وواقعي / نظري وكمي علم سياسة أمريكي وآخر أوربي ذكري وأنثوي نسوى ) والخلاصة أن البحث التاريخي أسقط فكرة أحادية علم السياسة قديما وحديثا في أقدم صيغة كان علم السياسة وثيق الصلة بالفلسفة ولكنها معنية ( بالينبغيات ) أي ما ينبغي أن يكون ولذا اعتقد أرسطو والفارابي وغيرهما من المفكرين السياسيين القدماء أن علم السياسة هو علم كل العلوم وقبل ذلك كان أفلاطون يري أن علم السياسة سيد كل العلوم لأنه العلم الوحيد الذي يسعى من أجل إقامة الحياة الفاضلة والمعني بذلك الصفوة التي تضحي بمصالحها من أجل ذلك ويري أفلاطون ( أن الحكيم يجب أن يكون حاكما والحاكم يجب أن يكون حكيما ) وبغير هذا لن تتحقق المساواة والعدالة والسعادة البشرية وجمهورية أفلاطون وكذلك مدينة الفارابي غير قائمة على أرض الواقع ...
وهذا الفهم الفلسفي لعلم السياسة ساد فترات تاريخية طويلة ثم اختفى مع ظهور المدرسة السلوكية ولكن البعض يعاوده الحنين للفكر السياسي التأملي بعد صعود التيار الما بعد سلوكي بحثا عن العدالة والمساواة .... خاصة بعد التطورات العلمية والحياتية المتسارعة وبخاصة ما يتعلق بالهندسة الوراثية وتفكيك الجينات وأصبحت المشكلات من صنع العلم نفسه وبالتالي لا يوجد من يتصدى لها إلا الفلسفة والفكر الفلسفي السياسي ....
علم السلطة
عدم واقعية الفهم الفلسفي لعلم السياسة هي أبرز نقاط ضعف هذا الفهم فهو هل يمكن أن يكون علم كل العلوم كما أن العدالة والحرية والمساواة والسعادة غايات إنسانية نبيلة ولكنها ليست سياسية فعلم السياسة الواقعي يدرس السياسة ظواهر مثل ، السلطة والقوة والحكم والدولة والسلوك السياسي .
علم السياسة الواقعي يدرس السياسة كما هي وليس كما ينبغي أن تكون ... ولذا فهو متصل أشد الصلة بالسلطة وبكل ماله علاقة بها القوة / النفوذ / الحكم / إذا فعلم السياسة هو ذلك العلم المتخصص في دراسة السلطة وفن إدارتها وممارستها والبقاء فيها والمحافظة عليها .
ينطلق علم السياسة الواقعي من حقيقة أن السلطة موجودة في الحياة من القدم لها جاذبية ليست لغيرها كما أن السلطة ارتبطت بالصراع الخفي أو المعلن ( ميكافيللي أول من ركز علي مفهوم السلطة ) ويعتر أول من أسس علم السياسة الواقعي وحدود ومواصفات رجل السياسة الذي يجب أن يتصف بالقوة وأيضا بالمكر والدهاء والخبث ( صفات الأسد والثعلب ) ولا علاقة للسياسة بالأخلاق والقيم النبيلة كما قال بذلك أفلاطون ....
علم الدولة
بالإضافة إلي السلطة هناك منم علماء السياسة من ركز علي الدولة حيث السلطة والقدرة والقرارات والمؤسسات والعلاقات الصراعية والتعاونية ...
فالسياسة وبهذا المعني لا توجد إلا حيثما توجد الدولة فقط وأي ممارسة للسياسة خارج إطار الدولة فإنها غير مهمة يجب تجاهلها أو غير شرعية ولذا فهي خارجة عن القانون يجب محاربتها ... والسياسي الناجح وفق المفهوم السابق هو الذي يتقن فن إدارة الدولة حسب اللوائح والقوانين المستمدة من الدستور .
كل ذلك يؤكد أن علم السياسة هو علم الدولة وبدون فهم الدولة لا يمكن فهم السياسة ولذا كانت الدولة منذ القديم ( أرسطو ومرورا بميكافيللي وهوبز ولوك وهيجل وماركس ... وغيرهم ) هي موضوع علم السياسة وهو يبحث في أصل الدولة ونشأتها والهدف من وجودها ووظيفتها ( توفير الأمن في الداخل وفي الخارج فقط أم تتسع لتشمل كل الخدمات الأخرى )ثم دراسة العلاقات بين الدول خاصة مع ظهور الدولة القومية وتزايد عدد الدول من 50 دولة عام 45 إلى 200 دولة حاليا ...
ووفقا للمفهوم السابق فإن الدولة – وحدها – وليست المنظمات الدولية أو الشركات العابرة للقارات أو التكتلات الاقتصادية والتجارية – هي التي تسيطر علي العالم المعاصر سيطرة كاملة .
الدولة إذا أهم حقيقة سياسية تزداد أهميتها وقدراتها وتغلغلها وفي بعض الأحيان تحولت إلى أداة تسلط وقمع في الدول النامية والقول بنهاية الدولة كأحد نتائج العولمة ليس صحيحا .
ولكن الدولة مهما كانت قدراتها ليست هي العنصر الوحيد لعلم السياسة فهناك سياسة خارجة عن الدولة وخارج أطرها الرسمية والممارسات السياسية خارج الإطار القانوني للدولة أكثر واهم من التي تمارس من خلال الدوائر الرسمية ...
ولذا يري فريق من علماء السياسة أن علم السياسة ليس علم الدولة ولا هو علم السلطة ولا هو علم كل العلوم وإنما هو علم السياسة وفقط يتكرر السؤال ما المقصود بعلم السياسة ؟
علم السياسة
هو علم قديم في جذوره ( منذ أرسطو) وأيضا علم حديث استقل عن الفلسفة والتاريخ والأخلاق في الخمسينيات والستينات طرحت مجموعة من المناهج التحليلية البديلة ( منهج تحليل النظم / البناء الوظيفي / الثقافة السياسية / اتخاذ القرار / النخبة / الدراسات المقارنة ) وهذه الدراسات مهدت الطريق لتأكيد مقولة علمية علم السياسة .
ورأي البعض أن هدف علم السياسة اكتشاف القوانين السياسية عبر المنهج العلمي باختبار الفروض وللتأكد من صحتها للوصول على تعميمات حول الظواهر السياسية ...
وهذا المفهوم ( الحديث ) يعني ان علم السياسة ليس عمره 2500 سنة وإنما 50 سنة فقط وارتبط هذا الإدعاء بالمنهج السلوكي الذي برز في عقد الخمسينيات وانتشر سريعا في الستينيات ويفترض هذا المنهج وجود انتظام في السلوك السياسي للإنسان وأن مهمة عالم السياسة اكتشاف هذا الانتظام ومن ثم دراسته علميا وكميا وتحليليا مثل العلوم الطبيعية وصولا إلي النظرية السياسية العامة والقوانين التي تتحكم في المتغيرات السياسية ( السلوك السياسي هنا وحدة التحليل الأولي وأصبح علم السياسة بالتالي علم السلوك السياسي ) فالسياسة هنا ليست غاية أو سلطة أو دولة وإنما في العام الأول سلوك إنساني مكملا للسلوكيات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها وهو ليس حكرا على السياسي وإنما يقوم به الإنسان العادي الذي يتابع الشأن العام ويبدي رأيه في القضايا المختلفة وإن اختلفت درجة الاهتمام من فرد لآخر ..
كما أن سلوك السياسي ( كرئيس الدولة أو عضو البرلمان ) ليس دائما سلوكا سياسيا فجزء مهم من سلوكه اليومي هو سلوك اجتماعي واقتصادي وديني ...
ولكن هذه الصيغة العلمية والسلوكية لعلم السياسة لم تقدم تعريفا محددا السياسة بخلاف أنها سلوك إنساني من نوع ما ، مما فتح الباب لتعريفات كثيرة جدا مختلفة أضفت الغموض مرة أخري علي السياسة .
أقدم هذه التعريفات تعريف هارولد لازول في شكل سؤال بسيط : علم السياسة هي من يحصل علي ماذا وكيف ؟ وديفيد إيستون يعرفها : إنها التوزيع المقنن للموارد .
المهم أن الهدف من هذه التعريفات الإجرائية هو دراسة السياسة دراسة تحليلية .
وتفترض هذه الدراسة التحليلية أن السياسة مجرد جزء من واقع اجتماعي أكثر شمولا ...
ولكن يمكن فرز الجزء السياسي ودراسته دراسة مستقلة وفهم علاقته بالأجزاء الأخرى كالجزء الاقتصادي والنفسي والثقافي والتاريخي ... وكذلك تأثير هذه الأجزاء في الجزء السياسي ( وهذا هو الهدف الأهم من أهداف التحليلي السياسي ... )
وتفترض الدراسة التحليلية أيضا أن الجزء السياسي مركبا من أجزاء فرعية ( النخب السياسية – المؤسسات السياسية – السياسة العامة ... ) ويمكن أيضا فرز هذه الأجزاء الفرعية ودراستها بشكل مستقل وإدراك علاقتها بالأجزاء السياسية الأخرى داخل الجزء السياسي .
الخلاصة أن هذا التحليل السياسي عبارة عن ( عملية ذهنية ) تحاول تجزئة الواقع الذي هو في الحقيقية غير مجزأ الأمر الذي أدي إلى انقسام علماء السياسة وأبدي البعض عدم اقتناعه بعملية علم السياسة وغير متحمس للتيار السلوكي وإنما بالتيار ما بعد السلوكي الذي يؤمن بالتعددية المنهجية النظرية الفكرية ....
لا علمية علم السياسة
أولا : التعريفات الإجرائية تسببت في إضفاء المزيد من الغموض علي السياسة التي تعاني أصلا من الغموض .
ثانيا : لا يمكن التنبؤ بالأحداث السياسية مهما كانت قدرة النظرية السياسية .
ثالثا : البحث عن هذه النظرية لم يؤد حتى الآن إلا الغرق في التنظير .
رابعا : التركيز في السلوك السياسي أدي إلي تهميش ظواهر سياسية مهمة كالدولة – القوة – السلطة – النفوذ – المؤسسات ...
خامسا : لا يمكن تأكيد علمية علم السياسة من خلال تطبيق الطرق الكمية والإحصائية التي لم تقدم سوي استنتاجات عادية وتقليدية ولم تؤدى إلي أي تراكم علمي أو نظري مهم وحاسم في المعرفة السياسية خلال الـ40 سنة الماضية
سادسا : إدعاء الحياد والتجردغير ممكن على الإطلاق فى العلوم الإجتماعية
سابعا : لايمكن تأكيد علمية علم السياسة من خلال التحليل السياسي لأن الدراسات الوصفية لها نفس الأهمية بل إن الدراسات التى تشرح أو تصف السلوك السياسي لازالت تؤسس لتراكم معرفى مهم
أخيرا : الدراسة العلمية عبر المعمل لا تناسب الظواهر الإنسانية المعقدة بل إن التشكيك في الحياد القيمي انتقل مؤخرا من العلوم الإنسانية والاجتماعية إلي العلوم الفيزيائية والأحياء .... وحتى الرياضيات ....وذلك من وجهة نظر التيار مابعد السلوكى0
والخلاصة أن مقولة علمية علم السياسة غير مجدية وممكنة وقد تبين الآن أن الحياد غير موجود وغير مطلوب وأن النظام غير ممكن فى الدراسات السياسية حيث أن معظمه سلوك عشوائى وكما أن النظرية السياسية الواحدة أو العامة محض إدعاء غير واقعى وهكذا أكد هذا الإتجاه : أن المنهجية العلمية ليست هى المنهجية الوحيدة وإنما هى واحدة من بين عدد من المناهج وأصبحت التعددية من أهم مرتكزات التيار مابعد السلوكى وبالتالى إعادة التوازن إلى علم السياسة :
أ‌- على الصعيد المنهجى " بين تيار يلتزم بتطبيق الطرق الكمية والإحصائية بصرامة وتيار آخر يتحرر من كل هذه الأطر "
ب‌- على الصعيد الأيديولوجى هناك تيار اليمين المتطرف وتيار اليسار المتطرف وقد أدت هذه الثورة مابعد السلوكية إلى أن أصبح الأنقسام رباعيا وليس ثنائيا بل وزاد عليهم تيار خامس يدعى الإعتدال الأيدولوجى والمنهجى مما دفع جبرائيل ألموند بوصف كل هذه التيارات بأنها أقرب للطوائف أو القبائل المتناحرة من كونها نظريات أو إتجاهات تحليلية أكاديميةويحملها مسئولية الضياع الراهن فى علم السياسة0
وهناك أسباب إضافية لحالة الضياع هذه :
بروز مجموعة غير متوقعة من الإتجاهات الفكرية الجديدة وغير المألوفة مثل :
الإتجاه النسوى : الذى ركز على قضايا المرأة وقسم علم السياسة إلى ذكورى وآخر نسوى
التحليل البنيوى : (ديفيد استون) – كبديل عن تحليل النظم وخلاصته أن علاقة الجزء بالكل هى علاقة ثلاثية (إختيارية حرة – إجبارية مقيدة – تنسيقية حاضنة )
إتجاه الإنتقاء العقلانى: ملخصه أن الفرد ليس أنانيا بطبعه وأن دراسة رغبات الأفراد من خلال الإطار المؤسسى يحول هذه الخيارات إلى خيارات جماعية0
إنهيار علم السياسة : هذا التنوع الفكرى والمنهجى وتزايد عدد علماء السياسة خاصة فى الولايات المتحدة بدأ يولد التباعد والإنشقاق مع زيادة التفرعات ومع إدعاء كل طرف إحتكار الحقيقة مما أدى إلى المزيد من التشتت مثل حقل العلاقات الدولية الذى يسعى للإنفصال كلية عن علم السياسة لأنه أصبح أكثر أهمية وحجما من ناحية المادة والقضايا والمدارس والنظريات وله فروع مثل القانون الدولى /الإقتصاد الدولى/ المنظمات الدولية 00000
والعكس بالنسبة لحقل الفكر السياسي الذى يعيش حالة من الجمود بدعوى أنه يرتبط بالماضى وبالقضايا الكلية فى حين أن علم السياسة يهتم بالحاضر والقضايا التفصيلية وقد يكون من بين الأسباب أن المفكرين السياسين لا يخفون إزدرائهم للمنهجية السلوكية وقد تراجع هذا النقد حاليا إعترافا بالحاجة الى الفكر السياسي بسبب التغيرات القيمية الحادة والأزمات الأخلاقية والسلوكية المزمنة فى العالم0
وأخيرا يعانى حقل السياسة المقارنة الذى يعد الوليد الشرعى للتيار السلوكى لحالة من الجمود أيضا مع تراجع أطروحات هذا التيار ، كما أن هذا الحقل تأرجح بين الأهتمام بمدخلات النظام السياسى ثم فى مرحلة لاحقة ركز على النظام السياسي ومكوناته (المؤسسات) وأخيرا أهتم بمخرجات النظام السياسي والسياسة العامة
الخلاصة : أن كل حقول علم السياسة تعج بالتغيرات وقد يختفى علم السياسة قريبا باعتباره علما مستقلا لحساب علم العلاقات الدولية وربما يستعيد عافيته مرة أخرى من خلال التأسيس لعلم سياسة جديد ومختلف وهناك علاقة عضوية بين التحولات التى يشهدها علم السياسة والعلوم الإجتماعية الأخرى والتى بدأت مع ميلاد العولمة التى تتطلب مفاهيم ومفردات جديدة