الأربعاء، 19 يناير 2011

الأحد، 16 يناير 2011

الأربعاء، 12 يناير 2011

الثلاثاء، 11 يناير 2011

مصر قبل الفتح الإسلامي 2

اضطهاد المسيحيين قبل الانحسار الروماني والبيزنطي




تطفح المصادر التاريخية التي تتعرض لهذه الفترة (ما بين ظهور المسيحية حتى انحسار الوجود الروماني والبيزنطي عن منطقة الشرق الأوسط) في مرارة بالأخبار الكثيرة عن هذا الاضطهاد؛ يقول المؤرخ القبطي زكي شنودة: "حين جلس مكسيميانوس على العرش سنة 235م اضطهد المسيحيين اضطهادًا شديدًا وخاصة في مصر، فاستشهد كثيرون في عهده، واضطر كثيرون إلى الفرار من وجهه، ومنهم البابا ياروكلاس بطريرك الإسكندرية".



وعن عهد ديسيوس الذى جلس على العرش سنة 249م، يقول القديس ديونيسيوس: "إن الخوف عَمَّ الجميع، وقد فُصِلَ المسيحيون جميعًا من خدمة الحكومة مهما كانت كفاءتهم أو مقدرتهم في عملهم، وكان الوثنيون يَشُون بالمسيحيين ويرشدون عنهم، فيُؤتى بهم في الحال ويطلب إليهم تقديم الذبائح للأوثان، ومن أولئك الأتقياء رجل اسمه يوليانوس كان مُقعَدًا؛ فحمله رجلان إلى دار الحكم وطلبا إليه أن ينكر إيمانه فرفض، وعندئذٍ حملوه على جمل وطافوا به في شوارع الإسكندرية وهم يجلدونه بالسياط، ثم أخيرًا طرحوه في لهيب النار فظل يحترق حتى مات".



وينقل لنا المقريزي في كتابه القيم "المواعظ والاعتبار" صورًا من المعاناة التي عاشها قبط مصر أثناء حكم بعض قياصرة الروم فيقول: "وفي أيام الملك أنديانوس قيصر أصاب النصارى منه بلاء كثير، وقتل منهم جماعة كثيرة، واستعبد باقيهم، فنزل بهم بلاء لا يوصف في العبودية حتى رحمهم الوزراء وأكابر الروم وشفعوا فيهم، فمَنَّ عليهم قيصر وأعتقهم.



واشتد الأمر على النصارى في أيام الملك أريدويانوس وقتل منهم خلائق لا يُحصَى عددهم، وقدم مصر فأفنى من بها من النصارى، وخرَّب ما بُنِيَ في مدينة القدس من كنيسة النصارى، ومنعهم من التردد إليها فلم يتجاسر نصراني أن يدنو من القدس، واشتد الملك أوليانوس قيصر على النصارى، وقتل منهم خلقًا كثيرًا.



وأثار الملك سوريانوس قيصر على النصارى بلاءً كبيرًا في جميع مملكته، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وقدم مصر وقتل جميع من فيها من النصارى، وهدم كنائسهم وبنى بالإسكندرية هيكلاً لأصنامه.



ولقي النصارى من الملك مكسيموس قيصر شدة عظيمة وقتل منهم خلقًا كثيرًا، كما لقي النصارى من الملك داقيوس قيصر شدة؛ فإنه أمرهم أن يسجدوا لأصنامه، فأبوا من السجود لها فقتلهم أبرح قتلة.



واشتد الأمر على النصارى في أيام الملك طيباريوس قيصر، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، فلما كانت أيام دقلديانوس قيصر خالف عليه أهل مصر والإسكندرية فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وكتب بغلق كنائس النصارى، وأمر بعبادة الأصنام، وقتل من امتنع منها، فارتد خلائق كثيرة جدًّا.



وفي عهد دقلديانوس قتل بطرك الإسكندرية بطرس بالسيف ومعه امرأته وابنتاه لامتناعهم من السجود للأصنام، وبدقلديانوس هذا يؤرخ قبط مصر إلى يومنا هذا. ثم قام بعده مكسيمانوس قيصر فاشتد على النصارى وقتل منهم خلقًا كثيرًا، حتى كانت القتلى منهم تحمل على العجل (العربات) وترمى في البحر.



ولم تلبث المسيحية أن لقيت قبولاً في عهد الإمبراطور قسطنطين الأول (323 – 337م) لا سيما بعد أن اعترف بها دينًا مسموحًا به ضمن الديانات الأخرى في الدولة الرومانية بموجب مرسوم ميلان الشهير في عام 343م، ثم أصبحت الدين الرسمي الوحيد للدولة في عهد الإمبراطور تيودوسيوس الأول (379 - 395م) الذي أصدر مرسومًا بذلك عام 380م، كما أصدر مرسومين في عامي 392 و 394م حرم بموجبها العبادات الوثنية".



النزاع والصراع بين المسيحيين حول طبيعة المسيح:
لم تنعم مصر المسيحية طويلاً بهذا النصر الذي أحرزه الدين المسيحي إذ ثار الجدل والنزاع منذ أيام قسطنطين الأول بين النصارى حول صفات المسيح، وقد تدخل قسطنطين الأول في هذه النزاعات الدينية البحتة، وعقد مجمع نيقية في عام 325م من أجل ذلك، وناقش هذا المجمع مذهب أريوس الإسكندري الذي أنكر صفة الشبه بين الأب والابن، وعَدَّ أن ابن الله ليس إلا مخلوقًا فأنكر بذلك ألوهية المسيح، وتقرر بطلان مذهبه، والإعلان عن أن الابن من جوهر الأب نفسه، واتخذ معظم الأباطرة الذين جاءوا بعد قسطنطين الأول موقفًا عدائيًّا من معتقدات النصارى في مصر؛ مما أدى إلى احتدام الجدل والنزاع الديني بين كنيستي الإسكندرية والقسطنطينية.



وقد بلغ أقصاه في منتصف القرن الخامس الميلادي، حينما اختلفت الكنيستان حول طبيعة المسيح، فاعتقدت الكنيسة المصرية بأن للمسيح طبيعة إلهية واحدة – مونوفيزيت - وتبنَّت كنيسة القسطنطينية القول بثنائية الطبيعة المحددة في مجمع خلقيدونية، ورأت أن في المسيح طبيعة بشرية وطبيعة إلهية، وهو المذهب الرسمي للإمبراطور البيزنطي. وقد عقد الإمبراطور مرقيان (4550 - 457م) مجمعًا دينيًّا في خلقيدونية في عام 451م من أجل وضع حد لهذا النزاع، تقرر فيه تحديد العقيدة الدينية المتعلقة بطبيعتي المسيح، وأنكر المجتمعون نحلة المونوفيزيتيين، وكفَّروا من قال بأن للمسيح طبيعة واحدة، وعَدُّوهم خارجين عن الدين الصحيح، كما تقرر حرمان ديسقوروس بطريرك الإسكندرية من الكنيسة.



والواضح أن ما أحرزته كنيسة القسطنطينية من انتصار على كنيسة الإسكندرية إنما يدل على أن دعوى الكنيسة الأولى بأن لها الصدارة بين الكنائس الشرقية ومساواتها بالكنيسة الغربية في روما قد أضحى واقعًا، واتخذت القضية في مصر شكلاً قوميًّا؛ إذ لم يقبل ديسقوروس ولا نصارى مصر ما أقره مجمع خلقيدونية، وأطلقوا على أنفسهم اسم الأرثوذكس أي أتباع الديانة الصحيحة، وعُرِفَتِ الكنيسة اليعقوبية نسبة إلى يعقوب البرادعي أسقف الرها المونوفيزيتي الذي زار مصر في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي ونظم كنيستها. أما أتباع كنيسة القسطنطينية فقد عُرِفُوا بعد الفتوحات الإسلامية باسم الملكانيين لاتباعهم مذهب الإمبراطور.



أضحى هذا النزاع بين الكنيستين مشكلة أقلقت المسئولين البيزنطيين، إذ إن المونوفيزيتية ليست إلا تعبيرًا عما بمصر وبلاد الشام من ميول انفصالية، وكانت الأداة التي اتخذها النصارى في هذه الجهات لمناهضة الحكم البيزنطي، فألغت كنيسة الإسكندرية استخدام اللغة اليونانية في طقوسها وشعائرها، واستخدمت بدلاً منها اللغة المصرية القبطية.



وما حدث من القلاقل الدينية في الإسكندرية وبيت المقدس وأنطاكية، وتَعَرُّض السكان في مصر لأشد أنواع الاضطهاد، وحرمان ديسقوروس وطرده من الكنيسة بسبب ما جرى من محاولة تنفيذ قرارات مجمع خلقيدونية بالقوة، إنما اتخذ صفة الثورات الوطنية العنيفة، ولم تقمعها السلطات إلا بعد أن أراقت دماء كثيرة.



وعندما استولى هرقل على الحكم، رأى أن ينقذ البلاد من الخلاف الديني، وأَمَّلَ المصريون بانتهاء عهود الاضطهادات وإراقة الدماء، ومن خلال البطريرك سرجيوس، الذي أدرك خطورة الموقف، لم يَأْلُ جهدًا في أن يعيد للكنيسة الهدوء والسكينة؛ ذلك أنه اعتقد بقدرته على التوفيق بين المذهبين الخلقيدوني والمونوفيزتي، فتبنى مذهب الفعل الواحد في المسيح، وهي وحدة تعرب عن وحدة الأقنوم (الشخص) لا عن وحدة الطبيعة، وأسند الرئاسة الدينية والسياسية في مصر للمقوقس أسقف فاسيس في بلاد القوقاز، وطلب منه أن يحمل أهل مصر على اعتناق المذهب الموحد، غير أنه لم يدرك أن مذهبه هذا قد ترفضه كنيسة مصر، وهذا ما حصل.



اضْطُرَّ المقوقس للضغط على المصريين وخَيَّرَهم بين أمرين: إما الدخول في مذهب هرقل الجديد، وإما الاضطهاد. وقبل أن يصل الحاكم الجديد إلى الإسكندرية في عام 631م هرب البطريرك القبطي بنيامين؛ توقعًا لما سيحل به وبطائفته من الاضطهاد من جرَّاء فرض المذهب الجديد.



كان هذا القرار نذيرًا أزعج الأقباط، وأفزع أهل الدين منهم، وخاصة أنه كان لهذا البطريرك مكانة محببة بين الأقباط في مصر، ولجأ المقوقس إلى البطش والتعذيب، وقاسى الأقباط جميع أنواع الشدائد فيما سُمِّيَ (الاضطهاد الأعظم) الذي استمر عشر سنوات، مما كان له أثر في سهولة فتح المسلمين لمصر. [راجع في ذلك د/ طقوش: تاريخ الخلفاء الراشدين]





ويمكن حصر الخلاف المذهبي في هذين الاتجاهين:

1- اتجاه يمثله الملكانيون (حزب الإمبراطورية البيزنطية): شعارهم ازدواج طبيعة واحدة؛ فالألوهية طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحده، ويلعن أصحاب هذا المذهب ويضطهدون كل من خالفهم الرأي.



2- اليعاقبة: وهم معظم أهل مصر من القبط، ويقولون بأن للمسيح طبيعة واحدة هي الألوهية، وفيها تكونت طبيعته البشرية، مثل: قطرة الخل تقع في بحر عميق لا قرار له، وكلا الفريقين كافر بالله، ضال عن الحق.



واحتدم الصراع بين أنصار مذهب اليعاقبة السائد في كثير من بلاد الإمبراطورية البيزنطية، وبين الإمبراطورية نفسها ذات المذهب المخالف، فعاقبت الإمبراطورية المخالفين لمذهبها كما أشرنا من قبل.



الأحوال السياسية
كانت مصر ولاية رومانية تابعة مباشرة لروما منذ عام 31 ق.م، حين استولى الرومان عليها وقضوا على حكم البطالسة فيها، واتخذها الإمبراطور أغسطس قيصر مخزنًا يمد روما بحاجتها من الغلال.



اتصف الحكم الروماني لمصر بالتعسف، فقد برع الرومان في ابتكار الوسائل التي تتيح لهم استغلال موارد البلاد، ففرضوا على المصريين نظمًا ضريبية متعسفة شملت الأشخاص والأشياء والصناعات والماشية والأراضي، فضاق المصريون بها ذَرْعًا، وقاموا بعدة ثورات ضد الحكم الروماني، لعل أشهرها تلك التي قامت في عهد الإمبراطور ماركوس أورليوس (161 – 180م)، وتعرف بحرب الزراع أو الحرب البوكولية، ولكن الرومان كانوا يقضون على هذه الثورات في كل مرة.



ظلت مصر تحت الحكم الروماني ما يزيد عن ستة قرون، وفي عام 395م انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: شرقي وغربي، وعلى الرغم من استمرار فكرة الإمبراطورية، فقد حكم إمبراطوران معًا، واحد في الشرق وآخر في الغرب، وفي عام 476م سقط القسم الغربي في أيدي البرابرة الجرمان، في حين نجا القسم الشرقي الذي عُرِفَ بالإمبراطورية البيزنطية، وعاصمته القسطنطينية.



وكان شمالي إفريقية - ومن ضمنه مصر - تابع لهذه الإمبراطورية من خلال ما كان يعرف بأرخونية إفريقية، إلا أنها بظروفها السياسية والدينية تُعَدُّ امتدادًا طبيعيًّا لبلاد الشام مع بعض الاختلاف في المدى الذي ترتبط به بالحكم المركزي في القسطنطينية؛ فقد وحدت بينهما العقيدة النصرانية، ولكن وفقًا لمفهوم لا يتفق كثيرًا مع المذهب الإمبراطوري الملكاني.



ومن ناحية أخرى، كان الحكم البيزنطي مباشرًا ومستبدًّا، يدار بواسطة حاكم يعينه الإمبراطور، لكن الحضور السياسي كان ضعيفًا، مما أدى إلى انعدام التوازن في العلاقة بين الحكم المركزي والشعب المصري، وكان المظهر الوحيد للسيادة المركزية والإدارية التي تُؤَمِّنُ مصالح الدولة الحاكمة، هو وجود مراكز عسكرية في المدن الكبرى، وبعض الحاميات المنتشرة في الداخل.



وكانت مصر بوصفها مرتبطة مباشرة بالحكم المركزي تتأثر بما كان يحدث في البلاط البيزنطي من صراعات ومؤامرات من أجل السلطة؛ فَتَعَرَّضَ المصريون لأشد أنواع المضايقات في عهد الإمبراطور فوقاس (602 -610م)، فما اشتُهِرَ به عهدُه من المؤامرات والاغتيالات، إنما حدد الإطار الخارجي الذي جرى في نطاقه من العوامل ما أَدَّى إلى انتشار الفوضى والتفكك البطيء في الحكومة والمجتمع، وقد تأثرت مصر بذلك، فامتلأت أرض الصعيد بعصابات اللصوص وقطاع الطرق، وغزاها البدو وأهل النوبة، واضطربت أوضاع مصر السفلى أيضًا وأضحت ميدانًا للشغب والفتن والثورات بين الطوائف، أوشكت أن تكون حربًا أهلية. وانصرف الحكام إلى جمع المال لخزينة الإمبراطورية، بِغَضِّ النظر عن مشروعية الوسائل أو عدم مشروعيتها، فاضطرمت مصر بنار الثورة.



وتعرضت الإمبراطورية في هذه الأثناء إلى كارثة خطيرة، إذ هُزِمَتْ عسكريًّا في البلقان وآسيا الصغرى وبلاد الشام، واجتاحتها الجيوش الفارسية، ثم شرع الفرس يغزون مصر.



كسرى أبرويز
وفي أيام فوقا (فوكاس) (602 - 610م) ملك الروم، بعث كسرى أبرويز ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر، فخربوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى بأجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم فقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبيًا لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم.



وفي أيام "فوكاس" أُقِيمَ يوحنا الرحوم بطرك الإسكندرية فدبَّر أرض مصر كلها عشر سنين، ومات بقبرص وهو فَارٌّ من الفرس، فخلا كرسي الإسكندرية من البطركية سبع سنين لخلو أرض مصر والشام من الروم، واختفى من بقي بها من النصارى خوفًا من الفرس. وكان غزو الفرس للإسكندرية عام 617م، وتم لهم إخضاع مصر عام 618م، وبلغوا أقاصي الصعيد حتى أسوان، وبقي سلطانهم في مصر حوالي عشر سنوات.



وعندما ملك هرقل (610 - 641م) الروم بالقسطنطينية تغلب على الفرس وغزا عاصمتهم المدائن، وأجبرهم على الانسحاب من جميع الأراضي التي استولوا عليها من آسيا الصغرى وبلاد الشام، وخرجوا من مصر عام 627م ، وهكذا عاد الروم إلى مصر في عهد هرقل.



والحقيقة أن تغلب الروم على الفرس كان أمرًا متوقعًا ولا يدعو إلى الدهشة بالنسبة للمسلمين، لماذا؟ لأن الله تعالى قد أخبر بذلك في كتابه الكريم؛ ففي أوائل الفترة المكية نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1–4]، وكان هذا إخبارًا بما حدث من هزيمة الروم، وبما سيحدث من انتصارهم لاحقًا على الفرس.



وقد ذهب أبو بكر الصديق t يذكر ذلك للمشركين يغيظهم به، وقد كان المسلمون يفرحون لنصر الروم لأنهم أهل كتاب، بينما يفرح المشركون لنصر الفرس لأنهم وثنيون مثلهم، فقال أبو بكر الصديق t: لَيَظْهَرَنَّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا. فصاح به أُبيّ بن خلف قائلاً: كذبت يا أبا فضيل. فقال الصديق: أنت أكذب يا عدو الله. فقالوا: هل لك أن نقامرك؟ وذلك قبل تحريم المراهنة والمقامرة، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين ومشت السبع سنين ولم يكن شيء؛ ففرح المشركون بذلك فشَقَّ على المسلمين، فذُكِرَ ذلك للنبي r فقال: "ما بضع سنين عندكم؟". فقالوا: دون العشر. قال: "اذهب فزايدهم سنتين في الأجل". قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على الفرس.



الروم مرة أخرى:
خرج الفرس من مصر عام 627م، وعاد إليها الروم البيزنطيون، وفي عام 631م أرسل هرقل الأسقف سيروس Cyrus بطركًا للإسكندرية، وهو الذي ذكره المقريزي باسم "فيرس" وذكره غيره باسم "قيرس" وكان ملكاني المذهب، وإلى جوار أنه كان أسقفًا فقد كان نائبًا عن هرقل في حكم مصر، وكانت الإسكندرية ما زالت هي عاصمة البلاد.



وصل "قيرس" إلى الإسكندرية، وبدأ اضطهاده للقبط ليحملهم على اتباع المذهب الملكاني الحكومي، فكان عليهم أن يختاروا بين مذهب خلقيدونية بنصه أو الجلد أو الموت، وبلغ السيل الزبي بقبط مصر، فلئن كان حكم الفرس مما لم يرغبوا فيه لِمَا كان معه من ظلم وجور، فإن حكم الرومان وبطشهم وعسفهم لم يكن مما يفرحون به ويحمدونه، فقد جاء "قيرس" ليحرمهم حرية العقيدة. وتتفق كلمة المؤرخين أن اضطهاد "قيرس" للقبط قد استمر عشر سنوات، بمعنى أنه استمر طول مدة ولايته.

مصر قبل الفتح الإسلامي 1

قبل الحديث عن الفتح الإسلامي لمصر، لا بد من الوقوف أولاً على أحوال مصر قبل ذلك الفتح، سواء الأحوال السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية؛ وذلك ليتسنى لنا الوقوف على طبيعة الفتوحات الإسلامية وماهيتها بالمقارنة بغيرها من الحروب وأنواع الاحتلال، وفي الوقت ذاته إبراز العوامل التي من شأنها أن تؤثر في حركة الفتح سلبًا أو إيجابًا.



حملة قمبيز بن قورش:
كان غزو "قمبيز" لمصر عام (525 ق.م) من أسوأ الغزوات التي تعرضت لها البلاد؛ فقد أعد قمبيز لحملته كل ما استطاع، ومالأه اليهود مقابل أن صرح لهم ببناء معبدهم في أورشليم، فجعل من فلسطين قاعدة لتحركه نحو مصر، كما اكتسب بذلك ولاء اليهود الذين كانوا في جيش مصر، وانحاز إلى قمبيز رجل إغريقي يُدعى "فانيس"، كان قائدًا لفرقة مرتزقة في جيش مصر، ووشى فانيس بخطط المصريين لمقاومة الحملة، كما أفاد قمبيز بدلالته على مسالك الصحراء، وتسهيل الاتصال ببدو سيناء لإمداده بالماء والمئونة عبر الصحراء.



ومات فرعون مصر "أمازيس" وارتقى العرش بعده ابنه الشاب "أبسماتيك الثالث" قبيل الغزو مباشرة، وسار قمبيز بجيشه من غزة كما تحرك أسطوله من عكا، وكانت وجهته بيلوز "الفرما"، فهزم أبسماتيك الثالث، وكانت المعركة الثانية في "عين شمس" ثم الثالثة في "منف"، وهذا يعني أن قمبيز قد سلك الطريق نفسَه الذي سلكه عمرو بن العاص من بعدُ، وفي منف وقع أبسماتيك أسيرًا، وسقطت عاصمته في يد قمبيز.



كان قمبيز ملكًا همجيًّا أَذَلَّ المصريين إذلالاً مهينًا، فقد أجلس أبسماتيك وكبار رجال دولته عند مدخل المدينة، وألبس ابنته وبناتهم ملابس الإماء التي تكشف عن أجسادهن العارية، وأجبرهن على حمل جِرَارِ الماء والسير حفاة أمامه، وأمام الفرعون الأسير يسقين المنتصرين ويخدمنهم، وعندما دمعت عينا أبسماتيك أمر به قمبيز فقُتل!!



وأراد قمبيز أن يواصل غزواته إلى النوبة، ولكنه هُزِمَ فارتدَّ على أعقابه، ثم عاد فسيَّر جيشه من طيبة غربًا إلى الواحات الخارجة ومنها إلى سيوة، ولكن ريحًا عاتية ثارت على الصحراء، فدُفِنَ هذا الجيش كله ولم ينجُ منه أحد، ولا عثر عليه أحد بعد دخوله الصحراء! ولم يجد قمبيز بُدًّا من العودة إلى فارس، ولكنه مات في الطريق عام (522 ق.م)، وقيل إنه انتحر.



وفي عام (341 ق.م) وجه الفرس حملة أخرى إلى مصر برًّا وبحرًا، استطاعت أن تحتل مصر مرة أخرى، حتى غزاها الإسكندر الأكبر بعد تسع سنوات.




حملة الإسكندر الأكبر
لقد خرج الإسكندر بجيشه من اليونان متجهًا شرقًا حتى عَبَرَ الدردنيل، ثم اشتبك مع

الفرس عند نهر (جرانيق) الذي يصب في بحر مرمرة وهزمهم سنة (334 ق.م)، واجتاز هضبة الأناضول إلى خليج الإسكندرونة، حيث هزم الفرس هزيمة ساحقة في إيسون، وَفَرَّ "دارا الثالث" ملك فارس إلى بابل، ثم سار الإسكندر جنوبًا ففتح بلاد الشام حتى وصل إلى مصر في جيش قوامه أربعون ألفًا، وأسطوله يبحر بحذائه في البحر، وسار من غزة إلى بيلوز "الفرما" ثم إلى منف، في الطريق نفسِه الذي سلكه قمبيز من قبل وعمرو بن العاص من بعدُ، واستسلم مازاكيس - الوالي الفارسي - للإسكندر دون مقاومة سنة (332 ق.م).





أنشأ الإسكندر مدينة الإسكندرية، ثم سار غربًا حتى سيوة وعاد إلى منف، ثم غادر مصر عام (331 ق. م) ليواصل فتوحاته، ولكنه توفي بالملاريا في 13 يونية عام (323 ق.م) وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.



وبعد وفاته تمزقت إمبراطوريته، واقتسمها قادته من بعده، فكانت مصر من نصيب بطليموس بن لاجوس، وبدأ حكم البطالمة لمصر سنة (306 ق.م)، وتتابع حكامهم حتى هزيمة القائد الروماني أنطونيوس في معركة أكتيوم البحرية سنة (31 ق.م) على يد القائد الروماني المنافس "أوكتافيوس"، الذى عُرِفَ بعد ذلك بالملك "أغسطس".



وهكذا انتهت الفترة البطلمية التي عانى خلالها المصريون من التمايز الطبقي والمظالم المادية، وفساد الإدارة، حتى تفككت الدولة، وضَعُفَ الجيش والأسطول، وبدأ الحكم الروماني لمصر عام (30 ق.م) واستمر قرابة سبعة قرون، فكان أطول وأسوأ فترات تاريخها.




الأحوال الاقتصادية
لقد أبقى الرومان في مصر حامية رومانية من ثلاثين ألفًا، عبارة عن ثلاث فرق، وقوات مساعدة، أخضعت البلاد وأخمدت ثوراتها، وأحالتها إلى مزرعة تمد الإمبراطورية الرومانية بالمال والغلال، لا سيما القمح، حتى إن الإمبراطور تيبريوس عَنَّفَ حاكمًا أرسل إليه حاصل الضرائب زائدًا عن النصاب السنوي وقال له: "إنه إنما وَلِيَ على مصر ليجزَّ وبرها لا ليسلخ جلدها"!



ولا خلاف في أن روما كانت تنظر إلى مصر على أنها بقرة حلوب دأبت على استنزاف لبنها، فلم يكن كل قياصرة روما مثل تيبريوس، ومع ذلك كان من رأيه أن يجز وبرها، وأصبحت مصر مستعمرة بمعنى الكلمة، وعاملت روما شعب مصر على أنه شعب مغلوب مقهور، ومنحت اليونانيين واليهود امتيازات خاصة في مصر، وحظر على المصريين حمل السلاح وصارت حيازته عقوبتها الإعدام، واتسم الحكم الروماني بفداحة الضرائب والعسف في الجباية، وعاش المصريون قرونًا ضنكًا، حتى خربت البلاد اقتصاديًّا واجتماعيًّا.



وقد كتب المؤرخ اليهودي فيلون philon فقال: إن جباة الضرائب كانوا يستولون على جثة العاجزين عن سداد الضرائب حتى يُكرِهوا ذوي قرباه على دفع الضرائب المتأخرة عليه؛ استنقاذًا لجثته، كما ذكر أن الزوجات والأطفال وغيرهم من الأقرباء كانوا يحشرون إلى السجون، ويُصَبُّ عليهم التعذيب حتى يصل الرومان إلى المفلس الهارب، فكان يحدث أن يهرب الأهالي من مدن برمتها!



وكانت جباية الضرائب تُطْرَحُ في مزاد عام يرسو على من يلتزم بتوريد أكثر، ثم تطلق أيديهم في تحصيل ما يشاءون بأبشع الوسائل، حتى تناقص عدد السكان، وظهرت المسئولية الجماعية بِمُضيِّ الزمن، فإذا اختفي أحد دافعي الضرائب وقعت مسئولية سدادها على زملائه، ووقع واجب فلاحة أرضه على الآخرين، وبلغ الحال أن امتنع الملتزمون عن التقدم لهذا العمل، فكانت السلطة تُكرههم على ذلك، وصار أولئك الذين كان من واجبهم ترشيح هؤلاء ضامنين مسئولين عما ينشأ من عجز!!



وهكذا عاشت مصر اقتصاديًّا، وهذه كانت صورتها لمدة سبعة قرون منذ انتحار كليوباترا عام (30 ق.م) حتى أنقذها الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص (640 - 642م).



وقد كان من الطبيعي أن تحدث ثورات على هذا الوضع، فقد نشبت ثورة في طيبة بعد بضعة شهور من الغزو الروماني، ونكَّل الثوار بجباة الضرائب الرومان، وزحف إليهم الحاكم الروماني جالوس من الإسكندرية حتى أسوان وما وراء الشلال الأول، فأخمد الثورة ونكَّل بالثائرين، وتكررت الثورات في الصعيد، وفي شمال شرق الدلتا وكان الرومان يخمدونها.



ويبدو أن الأمر كان صعبًا على الرومان في بعض الأحيان، فعقدوا صلحًا مع النوبيين، أعفوهم فيه من دفع الجزية، وأقام الرومان حصونًا في النوبة: في الدكة وكلابشة وقرطاسة وأبريم؛ لتعينهم على أمرهم، كما جَدَّدَ الإمبراطور تراجان (98 - 117م) بناء حصن بابليون ليكون المقر الرئيسي للحامية الرومانية في داخل البلاد.



وقد اتخذ الرومان مصر شاة حلوبًا يريدون أن يستنزفوا مواردها ويمتصوا دمها، يقول ألفرد: "إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد... مما لا شك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل". ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين): "إن مصر كانت تضيف إلى مالية الدولة البيزنطية مجموعًا كبيرًا من حاصلها ومنتجاتها، وكانت طبقات الفلاحة المصرية - مع حرمانها من كل قوة سياسية ومن كل نفوذ -مرغمةً على أداء الخراج للدولة الرومية، كَكِرَاء الأرض فضلاً عن الضرائب، وكانت ثروة مصر في هذا العهد إلى الانتقاص والانحطاط".



الأحوال الدينية
تسربت المسيحية إلى مصر في وقت مبكر، وأخذت في الانتشار تدريجيًّا في أنحاء مصر منذ القرن الثاني الميلادي، فألفَى الناس فيها زادًا روحيًّا، يستمدون منه القوة والقدرة على مقاومة ظلم أباطرة الرومان.



ولا شك أن الأهمية المتزايدة لإقليم مصر هي التي دفعت الإمبراطورية للوقوف في وجه المسيحية، فلعلها - إلى جانب مخالفتها لدين الدولة الرسمي - تدفع الناس لمقاومة الظلم، فما كان من الحكام بها إلا أن زادوا من حجم الاضطهادات في القرن الثالث الميلادي، وبالتحديد في منتصفه، حين قام ديكيوس الروماني بمحاولة إبادة المسيحيين على مستوى الإمبراطورية كلها بما فيها مصر، مما أدى إلى نوع من الانقسام بين المصريين، ما بين متحمل للاضطهاد وثابت على الحق مهما كلفه ذلك، وما بين متظاهر بالوثنية؛ نجاة بنفسه من الموت المحقق!!



وقد بلغت المظالم وحركة الاضطهاد ذروتها في عهد دقلديانوس (284 - 305م) الذي تَأَبَّى المسيحيون عليه، ورفضوا تقديم القرابين لآلهته، فما كان منه إلا أن مَثَّل بهم، وارتكب في حقهم أفظع الجرائم حتى لقد أطلق على عصره "عصر الشهداء"؛ بسبب آلاف الأرواح التي أزهقت من قبط مصر بسبب اعتناقهم المسيحية، وتمسكه بفتنتهم عن دينهم. وما زالت الكنيسة القبطية حتى الآن تستخدم تقويمها القبطي بدءًا بسنة (284م)، التي اعتلى فيها عرش الإمبراطورية، رغم أن اضطهاده الفعلي بدأ قرب أواخر حكمه سنة (299م).



ويذكر المقريزي أن دقلديانوس هذا كان من غير بيت الملك، فلما ملك تجبر، وامتد ملكه إلى مدائن الأكاسرة ومدينة بابل، واستخلف ابنه على مملكة روما، واتخذ تخت ملكه بمدينة أنطاكية، وجعل لنفسه بلاد الشام ومصر إلى أقصى المغرب، فلما كان في السنة التاسعة عشرة من ملكه -وقيل الثانية عشرة– خالف عليه أهل مصر والإسكندرية، فبعث إليهم، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وأوقع بالنصارى؛ فاستباح دماءهم، وغلَّق كنائسهم، وحمل الناس على عبادة الأصنام، وبالغ في الإسراف في قتل النصارى.



وقد أقام ملكًا إحدى وعشرين سنة، وهلك بعد علل صعبة؛ دَوَّدَ منها بدنه وسقطت أسنانه، وهو آخر مَن عَبَدَ الأصنام من ملوك الروم، وكل من ملك بعده فإنما كان على دين النصرانية، ويقال: إن رجلاً ثار بمصر يقال له "أجلة" وخرج عن طاعة الروم، فسار إليه دقلديانوس وحاصر الإسكندرية -دار الملك يومئذ- ثمانية أشهر، حتى أخذ "أجلة" وقتله، وعَمَّ أرض مصر كلها بالسبي والقتل.



وشأن جميع أفراد هذا النوع من أساطين الاستبداد في تاريخ العالم، من أمثال: فرعون موسى، ونمروذ إبراهيم، وستالين، وهتلر وغيرهم، نجد بكل أسًى من يلتمس لهم المعاذير!!



فتراهم يقولون: إن دقلديانوس كان يرغب في توحيد الإمبراطورية، وكان الولاء العام لدين الدولة الرسمي هو الرباط الذى يربط أجزاءها، ولكن المسيحيين رفضوا هذه المشاركة في الوثنية، وكان طبيعيًّا –هكذا!- أن يُدمجوا أو يستأصلوا، ومع ذلك فيبدو واضحًا أن الاضطهاد الأكبر لم يحدث بناء على رغبة دقلديانوس، وإنما أمر به وهو كاره له أشد الكراهية، وتحت ضغط شديد من القيصر جاليريوس. الاعتذار المرفوض نفسه الذي يتعلق به كل مستبد تافه، تورط في مثل هذه الهمجية من وحوش التعذيب في جميع العصور.



وبالرغم من ذلك يقول "هـ آيدرس بل": إنه لمن الخطأ أن نعتقد أن الاضطهاد كان حملة متصلة، وأن الحكومة الرومانية اضطهدت المسيحيين بسبب عقائدهم الدينية بالذات، فقد كانت متسامحة كل التسامح في المسائل الدينية، ولم تحاول أن تستأصل شأفة أي عبادة جديدة إلا بحجة منافاتها للمبادئ الأخلاقية، أو تعارضها مع السياسة العامة، وكان المسيحيون في نظر السلطات مواطنين أشرارًا، وعنصرًا خطرًا في المجتمع؛ لأنهم كانوا يترفعون عن ممارسة شعائر الديانة الرسمية، ولا يقدسون صور الأباطرة، غير أنه كان هناك دائمًا بين الوثنيين من كان مستعدًّا للتستر على أصدقائهم المسيحيين، كما كان حكام الولايات يحجمون أشد الإحجام في معظم الأحيان عن تطبيق قانون العقوبات عليهم، ولم يكن الاضطهاد عامًّا إلا عند حدوث كارثة قومية أو هياج شعبي، وكما قال ترتو ليانوس: فإذا فاض نهر التيبر على الجسور، أو غاض ماء النيل فلم يبلغ الحقول، أو أمسكت السماء عن المطر، أو زلزلت الأرض، أو حدثت مجاعة أو انتشر وباء تعالت الصيحات على الفور: "اقذفوا بالمسيحيين إلى الأسود". وفي تلك الأوقات كان بين الناس من يعوزهم الجَلَد، وكان كثير منهم يصمدون للمحنة.



وللاقتناع بصورة الاضطهاد الذي طال مداه وتجاوب من كانوا ينفذونه أو عدم تجاوبهم، نستطيع أن نرى صورة واضحة ومجسمة لذلك إذا نظرنا إلى الاضطهادات المعاصرة، وهي تكاد لا تختلف، وقد صدر في الموضوع عديد من الكتب التفصيلية على أية حال.



بعد ذلك بعشر سنوات اتخذ الإمبراطور قسطنطين بيزنطة عاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية، وسميت القسطنطينية، وأعلن اعتناقه المسيحية عام (324م). يقول هـ أيدرس بل: "في وسعنا أن نشعر أن اعتناق الإمبراطور المسيحية لم يكن خيرًا كله، فلم يعد اعتناق هذا الدين يعني مجرد الأمان، وإنما أصبح بدعة العصر، وأسرع كثير من منتهزي الفرص إلى اعتناق الدين الجديد".



ولقد كانت مصر في عام (300م) بلدًا وثنيًّا في جوهره، رغم وجود عدد كبير من المسيحيين، ولكنه في عام (330م) صار بلدًا يدين معظم أهله بالمسيحية. وفي هذا يقول هـ .آيدرس بل: "... ولا شكَّ أن بعض هذا الانقلاب كان يرجع إلى توقف الاضطهاد لا إلى استمراره، فقد حدث في 30 ابريل (311م) أن أصدر جاليريوس - وكان يعاني مرضًا كريهًا - قرارًا بوقف الاضطهاد، ملتمسًا من المسيحيين أن يُصلُّوا من أجله، ولقد استجابوا له ولكن دون جدوى، إذ قضى نحبه بعد ذلك بأيام قلائل".

إسرائيليون يروون قصة الانفصال

طالما أننا عجزنا عن الدفاع عن وحدة السودان، فربما يفيدنا أن نفهم ما جرى، ربما نبهنا ذلك إلى أن انفصال الجنوب ليس نهاية المطاف، ولكنه حلقة فى مسلسل تفكيك العالم العربى وتطويق مصر.



(1)


منذ وقت مبكر للغاية أدرك قادة الحركة الصهيونية أن الأقليات فى العالم العربى تمثل حليفا طبيعيا لإسرائيل. من ثم خططت لمد الجسور معها. فتواصل رجالها مع الأكراد فى العراق وسكان جنوب السودان. والموارنة فى لبنان. والأكراد فى سوريا والعراق. والأقباط فى مصر. واعتمدت فى مخططها على مبدأ فرق تسد.

حيث اعتبرت أن تلك هى الوسيلة الأنجع لتفتيت الوطن العربى من خلال خلق كيانات انفصالية فى داخلها. واستهدفت بذلك إعادة توزيع القوى فى المنطقة. على نحو يجعل منها مجموعة من الدول الهامشية المفتقدة لوحدتها وسيادتها. مما يسهل على إسرائيل، وبالتعاون مع دول الجوار غير العربية، مهمة السيطرة عليها الواحدة تلو الأخرى فيما بعد.

يؤكد ذلك أن جميع حركات التمرد التى فجرتها الجماعات الإثنية والطائفية فى العالم العربى. استمدت الدعم والتأييد والإسناد من الأجهزة الإسرائيلية التى انيطت بها مسئولية تبنى تلك الحركات الانفصالية. كما حدث مع الأكراد فى العراق وحركة التمرد فى جنوب السودان.

هذا الموقف يساعد على فهم واستيعاب الاستراتيجية الإسرائيلية إزاء المنطقة العربية، التى تستهدف تشجيع وحث الأقليات على التعبير عن ذاتها بحيث تمكن فى نهاية المطاف من انتزاع حقها فى تقرير المصير والاستقلال عن الوطن الأم. يؤيد هذه الفكرة ويغذيها أن المنطقة العربية، وعلى خلاف ما يدعى العرب، ليست وحدة ثقافية وحضارية واحدة. وإنما هى خليط متنوع من الثقافات والتعدد اللغوى والدينى والإثنى. وقد اعتادت إسرائيل تصوير المنطقة على أنها فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من أشكال التعدد اللغوى والدينى والقومى. ما بين عرب وفرس وأتراك وأرمن وإسرائيليين وأكراد وبهائيين. ودروز ويهود وبروتستانت وعلوين وصابئة وشيعة وسنة وموارنة وشركسى وتركمان وآشوريين... إلخ.

إن خريطة المنطقة فى النظر الإسرائيلى تعرف بحسبانها بقعة من الأرض تضم مجموعة أقليات لا يوجد تاريخ يجمعها. من ثم يصبح التاريخ الحقيقى هو تاريخ كل أقلية على حدة. والغاية من ذلك تحقيق هدفين أساسيين هما:

أولا: رفض مفهوم القومية العربية والدعوة إلى الوحدة العربية. ذلك أن القومية العربية فى التصور الإسرائيلى فكرة يحيطها الغموض. إن لم تكن ذات موضوع الإطلاق. وهم يعتبرون أن الوحدة العربية خرافة. فالعرب يتحدثون عن أمة واحدة، لكنهم يتصرفون كدول متنافرة. صحيح أن ما يجمع بينهم هو اللغة والدين، وهما يجمعان بعض الشعوب الناطقة بالإنجليزية أو الإسبانية دون أن يخلق منها أمة واحدة.

ثانيا: تبرير شرعية الوجود الإسرائيلى الصهيونى فى المنطقة. إذ هى وفقا لذلك التوجه تصبح خليطا من القوميات والشعوب واللغات. وتصور قيام وحدة بينها هو ضرب من الوهم والمحال. النتيجة المنطقية لذلك هى أن تكون لكل قومية دولتها الخاصة بها، ومن هذه الزاوية تكتسب إسرائيل شرعيتها، حيث تصبح إحدى الدول القومية فى المنطقة.



(2)


لست صاحب الفقرات السابقة، ولكننى نقلتها نصا من كتاب «إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان» الذى صدر عام 2003 عن مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا. ومؤلفه هو عميد الموساد المتقاعد موشى فرجى. وقد سبق أن استشهدت به وأشرت إليه أكثر من مرة من قبل. لكننى اعتبرت أن استعادة الشهادة فى الوقت الراهن لها مذاقها الخاص، لأننا بصدد لحظة حصاد ثمار الزرع الذى غرسته إسرائيل والقوى الدولية الواقفة معها منذ خمسينيات القرن الماضى.

استأذن هنا فى «فاصل قصير» نترك فيه مؤقتا نص العميد فرجى، لنقرأ نصا آخر ورد فى شهادة وزير الأمن الداخلى الإسرائيلى الأسبق آفى ايختر، تطرق فيه إلى السودان فى محاضرته التى ألقاها فى عام 2008 أمام معهد أبحاث الأمن القومى الصهيونى.

قال صاحبنا عن السودان ما يلى. كانت هناك تقديرات إسرائيلية منذ استقلال السودان فى منتصف الخمسينيات أنه لا يجب أن يسمح لهذا البلد رغم بعده عنا، بأن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربى، لأن موارده إذا ما استمرت فى ظل أوضاع مستقرة، ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب.

فى ضوء هذه التقديرات كان على إسرائيل بمختلف أجهزتها وأذرعها أن تتجه إلى الساحة السودانية، لكى تفاقم من أزماتها وتسهم فى إنتاج أزمات جديدة، بحيث يكون حاصل تلك الأزمات معضلة يصعب معالجتها فيما بعد.

لأن السودان يشكل عمقا استراتيجيا بمصر. وهو عنصر تجلى بعد حرب عام 1967، حين تحول السودان ومعه ليبيا إلى قواعد تدريب وإيواء سلاح الجو المصرى والقوات البرية. علما بأن السودان أرسل قوات إلى منطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف التى شنتها مصر بين عامى 1968 و1970.


لهذين السببين ــ أضاف ديختر ــ كان لابد أن تعمل إسرائيل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لعدم تمكينه من بناء دولة قوية موحدة. وهذا المنظور الاستراتيجى يشكل أحد ضرورات دعم وتنظيم الأمن القومى الإسرائيلى. (لاحظ أن المحاضرة القيت فى عام 2008 بعد نحو ثلاثين عاما من توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979).

حين سئل الرجل عن مستقبل جنوب السودان كان نص رده كالتالى: هناك قوى دولية تتزعمها الولايات المتحدة مصرة على التدخل المكثف فى السودان لكى يستقل الجنوب. وكذلك إقليم دارفور، على غرار استقلال كوسوفو، حيث لا يختلف الوضع فى جنوب السودان ودارفور عن كوسوفو، فى حق الإقليمين فى التطلع إلى الاستقلال واكتساب حق تقرير المصير بعد أن قاتل مواطنوهم لأجل ذلك.



(3)


دعم إسرائيل للمتمردين فى جنوب السودان، مر بخمس مراحل سجلها العقيد فرجى فى كتابه على النحو التالى:



● المرحلة الأولى: بدأت فى الخمسينيات، مباشرة بعد تأسيس دولة إسرائيل، وخلال تلك الفترة التى استمرت نحو عقد من الزمن اهتمت إسرائيل بتقديم المساعدات الإنسانية (الأدوية والمواد الغذائية والأطباء)، كما حرصت على تقديم الخدمات للاجئين الذين كانوا يفرون إلى إثيوبيا. وفى هذه المرحلة بدأت أولى المحاولات لاستثمار التباين القبلى فى جنوب السودان ذاته لتعميق حدة وهوَّة الصراع، ومن ثم تشجيع الجنوب على الانفصال. كما قام ضباط الاستخبارات الإسرائيلية الذين تمركزوا فى أوغندا بفتح قنوات الاتصال مع زعماء قبائل الجنوب لدراسة الخريطة السكانية للمنطقة.

●المرحلة الثانية: (بداية الستينيات): اهتمت إسرائيل بتدريب عناصر من الجيش الشعبى على فنون القتال، فى مراكز خاصة أقيمت فى إثيوبيا. وفى هذه المرحلة تبلورت لدى الحكومة الإسرائيلية قناعة بأن توريط السودان فى الحروب الداخلية كفيل بإشغاله عن أى مساندة يمكن أن تقدم إلى مصر فى صراعها مع إسرائيل. وكانت منظمات التبشير تقوم بنشاط ملحوظ فى الجنوب، الأمر الذى شجع إسرائيل على إيفاد عناصرها الاستخبارية إلى الجنوب تحت شعار تقديم العون الإنسانى،فى حين أن الهدف الأساسى كان استيعاب عناصر مؤثرة من السكان لتدريبهم لإدامة التوتر فى المنطقة. وفى هذه المرحلة أيضا عمدت إسرائيل إلى توسيع نطاق دعمها للمتمردين، عن طريق تقديم الأسلحة لهم عبر الأراضى الأوغندية، وكانت أولى تلك الصفقات فى عام 1962،ومعظمها كانت من الأسلحة الروسية الخفيفة التى غنمتها إسرائيل فى عدوانها على مصر عام 1956. واستمرت عمليات تدريب المقاتلين الجنوبين فى أوغندا وإثيوبيا وكينيا. ثم الدفع بهم للاشتراك فى القتال داخل الحدود السودانية.

● المرحلة الثالثة: التى امتدت من منتصف الستينيات وحتى السبعينيات، وقد استمر خلالها تدفق الأسلحة على الجنوبين من خلال تاجر أسلحة إسرائيلى وسيط اسمه جابى شفين كان يعمل لصالح الاستخبارات، وأرسلت إلى الجيش الشعبى شحنات من الأسلحة الروسية التى غنمتها إسرائيل فى حرب 1967، وقامت طائرات الشحن الإسرائيلية بإسقاط تلك الأسلحة والمعدات على ساحة المعسكر الرئيسى للمتمردين فى أورنج ــ كى ــ بول. كما قامت إسرائيل بإنشاء مدرسة لضباط المشاه فى (ونجى ــ كابول) لتخريج الكوادر اللازمة لقيادة فصائل التمرد. وكانت عناصر إسرائيلية تشترك فى المعارك لتقديم خبراتها للجنوبيين. وفى هذه المرحلة أيضا تم استقدام مجموعات من الجيش الشعبى إلى إسرائيل لتلقى تدريبات عسكرية. وفى بداية السبعينيات ــ فتحت بشكل رسمى نافذة أخرى لإيصال الدعم الإسرائيلى إلى جنوب السودان عبر أوغندا.

وحينما بدا أن حركة التمرد على وشك الانتهاء فى عام 1969، بذلت إسرائيل جهدا هائلا لحث المتمردين على مواصلة قتالهم، واستخدمت فى ذلك كل أساليب الكيد والدس التى استهدفت إقناع الجنوبيين بأنهم يخوضون صراعا قوميا مصيريا بين شمال عربى مسلم محتمل وجنوب زنجى أفريقى مسيحى ووثنى، يعانى فيه أهل الجنوب من الحرمان والظلم.

● المرحلة الرابعة: الممتدة فى أواخر السبعينيات وطوال عقد الثمانينيات. وفيها شهدت القارة الأفريقية عدة تقلبات لم توقف دعم إسرائيل للمتمردين، وقد ازداد الدعم بعدما أصبحت إثيوبيا ممرا منتظما لإيصال الأسلحة للجنوب. وبرز جون فرنق فى هذه المرحلة كزعيم ساندته إسرائيل واستقبلته فى تل أبيب وزودته بالمال والسلاح وحرصت على تدريب رجاله على مختلف فنون القتال، وكان بينهم عشرة طيارين تدربوا على قيادة المقابلات الخفيفة.

● المرحلة الخامسة: بدأت فى أواخر عام 1990 استمر الدعم الإسرائيلى واتسع نطاقه، وأصبحت الشحنات تصل إلى الجنوب عبر كينيا وإثيوبيا. وقد زودت إسرائيل الجنوبيين بالأسلحة الثقيلة المضادة للدبابات والمدافع المضادة للطائرات. ومع بداية العام 1993 كان التنسيق بين إسرائيل وبين الجيش الشعبى قد شمل مختلف المجالات، سواء فيما خص التمويل والتدريب والتسليح والمعلومات وإشراف الفنيين الإسرائيليين على العمليات العسكرية.



(4)


كما رأيت ــ وبشهادتهم ــ فإنهم لم يغمضوا أعينهم لحظة عن جنوب السودان منذ نصف قرن.

من الملاحظات الأخرى الجديرة بالانتباه أن حركة التمرد فى الجنوب بدأت فى عام 1955 أى قبل عام واحد من إعلان الاستقلال فى عام 1956، بما يعنى أن التمرد حين انطلق لم يكن له علاقة بفكرة تطبيق الشريعة التى دعت إليها حكومة الانقاذ (البشير ــ الترابى) فى سنة 1989.

من تلك الملاحظات أيضا أنه فى الوقت الذى كانت فيه إسرائيل تدعم الجنوبيين بالسلاح، فإن الدول الغربية كانت تواصل مساعيها الدبلوماسية لترتيب أمر انفصال الجنوب من خلال الاستفتاء. فاتفاقية نيفاشا للسلام التى وقعت بين حكومة الخرطوم والمتمردين تمت برعاية أمريكية ــ نرويجية ــ بريطانية إضافة إلى منظمة إيقاد. وهذه الاتفاقية تم التوصل إليها عبر سلسلة من المفاوضات المتقطعة فى أديس أبابا ونيروبى وأبوجا عاصمة نيجيريا. كما أن اتفاق ماشكوس الأول تم بناء على مبادرة قدمتها الولايات المتحدة.

منذ أكثر من نصف قرن وهم يمهدون للانفصال بالسلاح فى جانب وبالضغوط والألاعيب الخبيثة فى جانب آخر. ولو أن ربع هذا الجهد الدولى بذل لحل مشكلة فلسطين لأغلق ملف القضية واسترد الفلسطينيون حقوقهم منذ زمن بعيد. لكن تقرير المصير والاستقلال حلال على الجنوبيين حرام على الفلسطينيين.

لقد خططوا لأجل الانفصال وتحقق لهم ما أرادوا. أما العرب فقد وقفوا متفرجين على ما يجرى وذاهلين عن مراميه. وكانت النتيجة أن الذى زرع حصد الاستقلال، ومن وقف متفرجا ذاهلا حصد الخيبة. التى أرجو ألا تكون لخيبات أخرى فى العام الجديد.


فهمي هويدي

الثلاثاء 11 يناير 2011 مـ - 06 صفر 1432 هـ| الشروق

الاثنين، 10 يناير 2011

الخط الهمايونى

يشبه مناخ المزايدة، قدرا يغلي، ترسب حقائقه (الراسخة) لتغيب في القاع، ويطفو خبث أكاذيبه علي السطح، ليكون أول ـ وربما كل ـ ما يري من المشهد. لكن الخبث يبقي خبثا، والحقيقة أطول عمرا كما يقول «شوبنهور»، و«الخط الهمايوني»، تلك الفزاعة التي يرفعها الطائفيون مع كل حديث مفتري عما يسمونه «اضطهاد الأقباط»، يظل ـ برغم الأكاذيب ـ إصلاحا قانونيا كان ـ وقت صدوره ـ مطلبا تمسك به بطريرك الأقباط الأرثوذكس، لإنقاذ كنيسته من «طوفان» الإرساليات الإنجيلية، والكاثوليكية أيضا. ثم إنه هو نفسه «الخط الهمايوني» الذي استندت إليه الكنيسة الأرثوذكسية في دعواها ضد كنيسة الأنبا «مكسيموس»، ما يجعلنا نسأل: أهو قانون عثماني بال تطالب الكنيسة بالخلاص منه، كما يزعم منتسبوها، أم هو قانون تعترف به وتستند إليه؟

تسمية «الخط الهمايوني» تعني «القانون الشريف»، وهو قانون عثماني صدر في عهد السلطان عبد المجيد خان بن محمود خان الذي امتد حكمه من 1839 إلي 1861م. وكان حاكم مصر وقت صدورالقانون هو الوالي «محمد سعيد باشا»، رابع أبناء «محمد علي باشا»، ورابع ولاة مصر من الأسرة العلوية، حكمها من 1854 إلي 1863م. وبالتحديد صدر «الخط الهمايوني» في أوائل جمادي الآخرة 1272 هـ ـ 18 من فبراير 1856 م، أي بعد سنتين من بدء نشاط الإرساليات الإنجيلية الأمريكية في مصر، وهو نشاط عبرت الكنيسة الأرثوذكسية ـ صراحة ـ عن قلقها بشأنه، ورفضها له. أما الإرساليات الإنجيلية فقد استفادت من تجربة وخبرة الإرساليات «الكاثوليكية» التي سبقتها ومهدت لها الطريق، وراحت تعمل ـ خاصة في الصعيد والمناطق الفقيرة ـ مدفوعة بالثقل السياسي لبريطانيا العظمي، التي سبقت إرسالياتها الإنجيلية الإرساليات الأمريكية، ومدفوعة أيضا بالأموال الطائلة التي تتدفق عليها عبر المحيط من الولايات المتحدة؛ ما سهل مهمتها نحو اكتساب الأتباع، وإغراء بعض الأرثوذكس لمشاركتهم كنائسهم، التي أصبحت كنائس «أرثو ـ إنجيلية».

وكان بطريرك الأقباط الأرثوذكس آنذاك هو «كيرلس الرابع»، الذي كان اسمه قبل رسامته «القس داود الصوامعي» والملقب في تاريخ الكنيسة بـ«أبو الإصلاح»، وهو البطريرك رقم 110، خلف البطريرك «بطرس السابع»، وجلس علي الكرسي المرقسي من 1854 إلي 1861م. ولنعرف مدي هيمنة الإرساليات الإنجيلية علي المشهد المسيحي في مصر آنذاك، يكفي أن نشير إلي ما سجلته وثائق الكنيسة الأرثوذكسية من انقسام الأقباط إلي ثلاثة أحزاب بشأن انتخاب البطريرك، واستعانة «القس داود الصوامعي» بالمستر «ليدر» عضو إحدي الإرساليات الإنجليزية، طالبا منه التوسط لدي قنصل إنجلترا في مصر لإقناع الوالي «عباس الأول» بإقراره بطريركا، وهو ما تم في نهاية المطاف علي الرغم من عائقين كبيرين، يشهد تجاوزهما بقدرات المستر «ليدر» ومدي نفوذ القنصل الإنجليزي الداعم للكنائس الإنجيلية:

> العائق الأول: أن العرافين ـ وكان «عباس الأول» يهتم بتدجيلهم ـ أشاعوا أن رسامة «داود الصوامعي» بطريركا سيكون شؤماً علي الوالي، والمدهش أن «عباس» اغتيل في قصره بمدينة بنها في 14 من يوليو 1854م، أي بعد رسامة البطريرك بأربعين يوما!

> والعائق الآخر: أن خصوم ومنافسي «كيرلس الرابع» كانوا أقوياء لدرجة أنه ـ وقبل أن يقره الوالي في منصبه ـ قضي شهورا طويلة محاصرا حيث: «قام خصومه وحالوا بينه وبين إنجاز مصالح الطائفة، واشتدوا عليه شدة بالغة، حتي كان إذا أراد النوم لا يجد لرأسه وسادة ينام عليها، ولا لجبينه فراشا، وإذا جاع لا يقدمون طعاما إلا ما يسمحون به له، وإذا زاره أحد لا يسمحون له بلقائه». ولا شك في أن خصوما يمكنهم حصار البطريرك علي هذا النحو، كان بمقدورهم أن يحولوا دون رسامته من البداية، والحقيقة أنهم لم يدخروا وسعا في هذا الصدد، لدرجة وصلت إلي تبادل السباب، والعراك، وكسر باب الكنيسة، بل إن بعض الأحباش تعقبوا البطريرك ليقتلوه، ما اضطره إلي الاختفاء، لكن نفوذ عضو الإرسالية الإنجيلية كان له الأثر الحاسم برغم هذا كله، فأي نفوذ هذا؟

إنه النفوذ نفسه الذي وجده «كيرلس الرابع» بعد رسامته بطريركا يقف عقبة في طريق مساعيه نحو تحسين أحوال كنيسته، لهذا رفع صوته بالشكوي منه، وعندما صدر «الخط الهمايوني» خاض بطريرك الأقباط ـ بنفسه ـ معركة لتطبيقه في مصر، التي كانت تتمتع باستقلال نسبي عن السلطنة العثمانية. ويكفي أن نقرأ مقدمة هذا القانون لنعرف أن البطريرك كان معه الحق كله في المطالبة بتطبيقه، وهي المقدمة التي يقول فيها السلطان العثماني: «قد أصدرنا إرادتنا الملوكية هذه بإجراء الأمور الآتية: وهي اتخاذ التدابير المؤثرة نحو: تأمين كافة التبعة الملوكية من أي دين ومذهب كانوا ـ بدون استثناء ـ علي الروح والمال وحفظ الناموس.... وتقرير إبقاء كافة الامتيازات والمعافيات الروحانية التي منحت، وأحسن بها في السنين الأخيرة، والتي منحت من قبل أجدادنا العظام للطوائف المسيحية وكافة الملل غير المسلمة».

كما تضمن «الخط الهمايوني» نصا واضحا يتيح للأقباط، في المناطق التي لا توجد فيها طوائف مسيحية أخري، أن يقيموا ما يحتاجون إليه من منشآت، أما في المناطق التي تتواجد فيها طوائف متعددة، فقد اشترط القانون موافقة السلطان. وإذا عرفنا أن الأقباط هم الطائفة المسيحية الوحيدة التي توجد في مصر منفردة في بعض المناطق، والتي توجد أيضا حيثما وجدت غيرها من الطوائف المسيحية، نفهم أن هذا النص منح الأقباط حرية البناء، وفي الوقت نفسه حد ـ لصالح الأقباط ـ من نشاط بناء كنائس الطوائف الأخري. حيث نص «الخط الهمايوني» علي أن «البلاد والقري والمدن التي يكون جميع أهاليها من مذهب واحد، لا يحصل إحداث موانع في بناء سائر المحلات التي تكون مثل مكاتب واسبتاليات (مستشفيات) ومدافن مختصة بإجراء عاداتهم حسب هيئتها الأصلية، وعند لزوم إنشاء هذه المحلات مجددا بحسب استصواب البطاركة ورؤساء الملة، يلزم رسمها، وبيان صفة إنشائها، وتقديم ذلك إلي بابنا العالي، وإما أن يجري المقتضي فيها بموجب إرادتنا السنية الملوكية المتعلقة بقبول الصور السابق عرضها، وإما أن يصير بيان المعارضات المختصة بذلك في ظرف مدة معينة، وإذا وجدت طائفة من مذهب منفردة بمحل وليس مختلطة مع مذاهب أخري، فلا تصادف صعوبات في إجراء الخصائص المتعلقة بنفاد عوائدها في هذا المحل علنا، وإذا كانت قرية أو بلدة أو مدينة مركبة أهاليها من أديان مختلفة، يمكن لكل طائفة منهم ترميم وتعمير كنائسها، واسبتالياتها، ومقابرها بحسب الأصول الموضحة بالمحلات المخصصة لهم الموجودة محلات سكنهم به، وأما الأبنية المقتضي إنشاؤها مجددا، يلزم أن تعرض البطاركة والمطارنة لبابنا العالي باسترحام الرخصة اللازمة عنها، فإن لم يوجد لدي دولتنا العلية موانع في الامتلاك تصدر بها رخصتنا السنية، وكافة المعاملات التي تحصل فيما يماثل كل هذه الأشغال تكون مجانا من قبل دولتنا العلية في التأمين علي إجراء عوائد كل مذهب بكمال الحرية مهما كان مقدار العدد التابع لهذا المذهب. وتمحي وتزال إلي الأبد من المحررات الرسمية الديوانية كافة التعبيرات والألفاظ المتضمنة تحقير جنس لجنس آخر، في اللسان، أو الجنسية، أو المذهب من أفراد تبعة سلطتنا السنية.... وبما أن عوائد كل دين ومذهب موجود بممالكنا المحروسة جارية بالحرية، فلا يمنع أي شخص من تبعتنا الملوكية من إجراء رسوم الدين المتمسك به، ولا يؤذي بالنسبة لتمسكه به، ولا يجبر علي تبديل دينه ومذهبه».

هذا هو القانون العثماني الذي طالب «كيرلس الرابع» بتطبيقه، وعندما تأخرت استجابة والي مصر «محمد سعيد باشا» له، أعرب البطريرك عن استيائه، وذهب إلي دير «الأنبا أنطونيوس»، مع صديقه بطريرك الروم الأرثوذكس «الأنبا كلينيكوس»، حيث أقاما نحو 6 أشهر، وحين حاول قنصل فرنسا «الصيد في الماء العكر» وعرض علي البطريرك أن يتوسط بينه وبين الوالي، مقابل السماح للرهبان اليسوعيين (كاثوليك) ببناء كنائس لهم في الحبشة رفض «كيرلس الرابع» العرض، الذي لم يكن إلا محاولة من قنصل فرنسا للالتفاف علي ما أتاحه «الخط الهمايوني» للأقباط من حماية.



محمد القدوسي

جنوب السودان.. بداية مشكلة

كانت عيون الاستعمار الانجليزي مسلطة علي جنوب السودان، حتي قبل أن يتم اعادة السودان عام 1899، وكان مخطط الانجليز يقوم علي ابعاد كل مسئولي الشمال عن الجنوب.. وليس سراً أنه كانت هناك تعليمات من حاكم عام السودان - وهو انجليزي - ألا يقترب مسئول شمالي واحد من أي موقع في الجنوب.. ليس هذا فقط بل امتد هذا الاسلوب إلي أي مسئول مصري هناك رغم أن مصر هي شريك الانجليز في الحكم، وهم في الاساس كانوا حكام السودان كله قبل ثورة المهدي.

وفي الوقت الذي سمح الانجليز فيه للبعثات التبشيرية المسيحية بالعمل في الجنوب.. كان محرماً أن يدخل رجل دين مسلم إلي هذا الجنوب، سواء لشرح قواعد الدين الاسلامي، أو حتي لتعليم اللغة العربية.. وهكذا تباعد الجنوب شيئاً فشيئاً عن الشمال.. وللاسف استكان الشماليون إلي هذا الاسلوب..

** وللأسف استمرت هذه السياسة تجاه الجنوب، حتي بعد أن نال كل السودان استقلاله في يناير عام 1956.. وظل الجنوب مهملاً أيضاً تحت حكم اهله السودانيين.. وتلك هي الجريمة الكبري.

ولقد عاني الجنوبيون كثيراً من سياسة اهمال الشماليين لهم، في كل شيء بداية من المدارس والرعاية الصحية إلي اغفال كل عوامل البنية الاساسية التي يفتقدها الجنوب، حتي سمعنا من يقول انهم في الجنوب لا يعرفون معني تعبير البنية التحتية من شبكات لمياه الشرب إلي الصرف الصحي إلي الكهرباء.. بل ايضا إلي الطرق المرصوفة وغيرها.. وكان هذا خطأ الشمال الأول والأفدح..

** ورغم أن الدعوة للانفصال عن الشمال بدأت قبيل الاستقلال بشهور قليلة إلا أن اهل الجنوب دائما ما كانوا في شك من شعور اهل الشمال تجاههم.. وهذا أحدث الشق الرهيب بين الشماليين والجنوبيين.

وقد يكون للشماليين بعض العذر بحجة عدم استقرار أوضاع السودان.. وبسبب توالي الانقلابات العسكرية التي عصفت بكل السودان، وكان الانقلاب الأول بعد الاستقلال بسنوات قليلة - وهو انقلاب الفريق ابراهيم عبود - وقد تكون سيطرة الشماليين حتي علي هذه الانقلابات هي السبب وتذبذب الاوضاع بين الاتجاه نحو اليسار، والاتجاه نحو اليمين.. ولكن الحقيقة المؤكدة هي التجاهل التام للجنوب، من كل الحكومات التي تولت أمر السودان إلي أن وصل الأمر إلي حد أنه لم يكن هناك ضابط جنوبي واحد برتبة كبيرة في الجيش أو في الشرطة..

** وزادت عزلة الجنوبيين.. فزادت ثوراتهم، تحركوا وخاضوا سلسلة طويلة من الحروب، هي تلك التي عرفناها باسم الحرب الأهلية بينما هي حرب بين الشمال والجنوب فيما عرف بحركة انيانيا 1 وانيانيا 2 ثم بالحركة الشعبية لتحرير السودان.. وهكذا..

والمؤلم أنه بسبب كل هذه الحروب والمشاكل التي اخرت بناء دولة عصرية في كل السودان وجدنا من يخرج من ابناء الشمال: من الساسة ومن رجال الاحزاب من يعلنها صراحة: ليذهب الجنوب حيثما شاء.. وليترك السودان لأهل الشمال.. سمعت ذلك من رئيس وزراء سابق شهير.. وسمعته من شريك أساسي في الحكم مع الفريق البشير، بل وسمعت نعرة »نحن عرب.. وهم زنوج« ونحن مسلمون وغير غير ذلك.. وهكذا خرج الصراع من تحت الارض إلي العمل المعلن.

** وبينما المعارك مستمرة في الجنوب ظهرت بادرة ضوء رشيد.. الاولي في محاولة الوصول إلي حل لمشكلة الجنوب وكان ذلك في مؤتمر المائدة المستديرة اذ بعد تولي سر الختم خليفة رئاسة الوزراء في اكتوبر 1964 تم تعيين كلمنت أمبورد - وهو جنوبي - وزيراً للداخلية ومسئولاً عن الامن في جميع انحاء البلاد شمالاً وجنوباً.. ووجد ذلك ترحيبا.. اذ ان سر الختم قبل ذلك عمل مساعداً لمدير التعليم في الجنوب وكان ملماً بشئون الجنوب.. وبدأت خطوات جديدة من أجل المصالحة..

** وتقدم قادة حزب سانو بمذكرة لرئيس الوزراء تضمنت اصدار عفو عام بالنسبة لجميع اللاجئين.. والاعتراف بالحزب مع اعطائه حق مباشرة نشاطه داخل السودان.. وعقد مؤتمر مائدة مستديرة تحضره احزاب الشمال والجنوب ورجال القانون والجامعة التي كانت مهد المعارضة ضد حكومة عبود مع قادة النقابات.. وذلك - ولاحظوا - لمناقشة العلاقات الدستورية بين الشمال والجنوب.. واقترحت المذكرة ايضا »حضور مراقبين من منظمة الوحدة الافريقية« والدول المجاورة ومصر.. وتم تكوين تنظيم جديد من مثقفي الجنوب الموجودين بالخرطوم سمي جبهة الجنوب.

وفي نوفمبر 1964 اعلن سر الختم خليفة في خطاب موجه للشعب أن حكومته تولي الجنوب اهتماماً كبيراً ودعا إلي السلام والتفاوض لان القوة لن تحل شيئاً..

كل ذلك جاء كبارقة أمل لحل المشكلة سلمياً.. وظهر أن كل المقبول لدي الجنوبيين هو النظام الفيدرالي وان يكون نائب الرئيس من الجنوب وان يكون حكام المناطق الادارية في الجنوب.. من الجنوبيين وان تكون الانجليزية هي اللغة الرسمية مع تحويل مدرسة رومبيك الثانوية إلي جامعة وتعيين مساعدين لمدير التعليم في الجنوب احدهما جنوبي.. واعضاء مجلس التطوير تحت رئاسة جنوبي.. مع انشاء قيادة عسكرية وتعيين جنوبيين في وزارة الخارجية.

** ولم يعقد مؤتمر المائدة المستديرة في فبراير 65 كما كان مقرراً ولكنه عقد في الشهر التالي في الخرطوم ولكن المشاكل حاطت بالمؤتمر الذي عقد برئاسة النذير رفع الله نائب رئيس جامعة الخرطوم.. وسمعنا فيه لأول مرة تغيير وجود سودانيين اثنين وانه لا توجد اي قاعدة للوحدة.. حتي وحدة المصالح غير موجودة.. وتم استعراض وجهات النظر وظهر واضحاً مطلب انشاء مجلس استشاري لتطوير الاقتصاد وبرلمان وجامعة للجنوب.. بل والسيادة علي الشئون الداخلية.

** وانقسم الجنوبيون علي انفسهم في هذا المؤتمر: المعتدلون طالبوا بنظام فيدرالي، وفريق اخر هاجم تجار الرقيق العرب ونادوا بالاستقلال وفريق ثالث طالب باستفتاء تقرير المصير.. وفريق طالب بالانفصال..

** وكان ذلك في مارس 1965.. فهل تغيرت الصورة.

وفشلت بادرة الامل الاولي في حل المشكلة..

بقلم: عباس الطرابيلي

الأحد، 9 يناير 2011

وقعنا فى المحظور -------- فهمي هويدي الشروق الاحد 9 يناير 2011 مـ

إذا صح أن محافظ كفر الشيخ أصدر قرارا بمنع تحفيظ القرآن فى البيوت إلا إذا كان القائم على الحفظ إما مرخصا له من وزارة الأوقاف أو مندوبا عن إحدى الجمعيات الأهلية التابعة لوزارة التضامن الاجتماعى، فذلك يعد تعبيرا عن حالة التخبط والارتباك التى وقع فيها البعض بعدما وقعت الواقعة فى الإسكندرية ــ ذلك أنه بمقتضى هذا القرار فإن حفظ القرآن أصبح غير مسموح به فى البيوت إلا إذا تم تحت إشراف الحكومة أو من يمثلها. وليت الأمر وقف عند ذلك الحد، لأن ذلك التخبط عبرت عنه مختلف وسائل الإعلام المصرية، التى امتلأت بكتابات حين حاولت أن تتعاطف مع الأقباط وتنصفهم، فإنها لجأت إلى اتهام المسلمين ومحاولة تحميلهم بالمسئولية عن جرم لم يرتكبوه. بل ظن البعض أن إضعاف الإسلام فى البلد وطمس هويته الإسلامية مما يقطع الطريق أمام احتمالات الفتنة التى بدأت تلوح فى الأفق. وبدا فى كتابات هؤلاء أنهم اتخذوا موقفا معاكسا تماما لمن قالوا بأن الإسلام هو الحل، فحاولوا إقناع الرأى العام بأن الإسلام هو المشكلة.

لقد اقترح أحد كبار الصحفيين إلغاء المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الإسلام دين الدولة الرسمى، وطالب بنص آخر يقرر أن مصر مجتمع مدنى تسكنه أغلبية من المسلمين. فى تبسيط ساذج للمسألة، وطرح حل معيب لها.

أما التبسيط فيكمن فى التعامل اللغوى مع الملف. بمعنى اللجوء إلى تغيير الصياغات اللغوية دون تفكير فى تغيير شىء من معطيات الواقع. وهو ما يذكرنا بمعالجة مسألة «المواطنة» التى تحمسنا يوما ما للدفاع عنها، وكل ما فعلناه أننا أضفنا الكلمة إلى تعديل تم فى صلب المادة الأولى من الدستور، فاعتبرنا أن نظام مصر «ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة»، ولم نكن بحاجة لذلك، لأن النص الأصلى للدستور تضمن فى المادة 40 نصا أوضح وأوفى قرر أن «المواطنون لدى القانون سواء. وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة». وظننا أننا حللنا المشكلة بالنص على المواطنة فى المادة الأولى، وأراح ذلك ضمائر المعنيين بالأمر، لكن ذلك لم يغير شيئا من الواقع، وظلت المشكلة كما هى.

لقد ظن البعض أن طمس الهوية الإسلامية للمجتمع يمكن أن يحل الإشكال، فى تعبير لا أعرف إن كان يعبر عن شعور بالنقص وازدراء الذات أو شعور بالنفور والمرارة. إن المادة الأولى من الدستور اليونانى تنص على أن الأرثوذكسية الشرقية هى المذهب الرسمى للبلد. والملك فى كل من الدنمارك والسويد يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الإنجيلية، وفى إسبانيا يجب أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية. وذلك حاصل أيضا فى بعض دول أمريكا اللاتينية. وفى نيبال وتايلاند تعد البوذية دينا رسميا لكل منهما.

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يستشعر هؤلاء عارا من اعتبار الإسلام دينا للدولة المصرية؟ ولماذا الإلحاح على تلك المعادلة البائسة التى تريد إقناع الرأى العام بأن إنصاف الأقباط لا يكون إلا بملاحقة الإسلام وحصاره فى المجال العام. وهل يكون الحل فى منع تدريس مادة الدين فى المدارس، كما طالب البعض، بحيث يجمع بين الإسلام والمسيحية واليهودية فى منهج دراسى واحد، رغم ما بينهما من اختلافات فى الضوابط والخصائص؟ ولا أعرف ما هى «الأسلمة» الحاصلة فى مصر التى وجه إليها البعض سهامهم واعتبروها مسئولة عن تدهور ثقافة المجتمع وتمزيق روابطه؟

إن ثمة هرجا شديدا فى الساحة الإعلامية، تخللته رسائل أخطأت الوسيلة والهدف، حين أرادت أن تهدئ من خاطر الأقباط فاستفزت المسلمين، وحاولت أن تتصدى للتعصب فضربت التدين وأهانته، من ثم فإنها جرحت بأكثر مما عالجت وأفسدت بأكثر مما أصلحت. ولم يسلم بعض العقلاء من الانزلاق والشطط، فاعتبر بعضهم أن مواجهة الحقائق والدفاع عن الدولة المصرية يعد مساسا بالوحدة الوطنية، وفوجئنا بأن رجلا مثل الدكتور محمد سليم العوا، الذى يعد أحد أبرز رموز الوسطية وأحد أهم أركان استمرار الحوار الإسلامى المسيحى، موضوع فى تصنيف واحد مع بن لادن والظواهرى.

لقد تحدث الدكتور حسن نافعة، وهو من العقلاء القليلين الذين تعاملوا مع الموضوع فى كتاباتهم، عن الاستغلال السياسى لحادث الإسكندرية، وكيف أن البعص يحاول استثماره واستخدامه فى الابتزاز وتعظيم المكاسب، وهو محق فى ذلك لا ريب. لكنى أضيف أن الحكومة أصبحت المستفيد الأول مما يجرى، لأن الناس توقفوا عن الحديث عن فضائح الانتخابات وقضايا الفساد فى البلد، كما أن ما جرى بدا ذريعة قوية لمد قانون الطوارئ والدفاع عن استمراره. إن مصائب قوم عدن قوم فوائد.